تضع رواية جاهلية يدها على الجرح وتنثر الملح بكل وضوح سافر فهي تتمركز حول قضية اجتماعية متزامنة مع ثلة من القضايا المساهمة وبشكل فعال في إحداث ثورة درامية ملحوظة ونقلة نوعية داخل مجتمع مدني في صورته مشكوك في مصداقية تبنيه للقضايا والتزامه الشديد بها وذلك لاعتبارات عدة تقف على أولها مسائل العرف والعادات والتقاليد السائدة وتصور قصة فتاة سعودية تدعى “لين” وما يحويه اسمها من دلالات الليونة التي تعني قابلية كسرها وقعت في حب شاب اسود يدعى “مالك” مع ما يحمله اسمه من دلالات توحي باستبعاده ناهيك عن أنه لا يحمل الجنسية .
تجري أحداث الرواية بمعرفة “هاشم” الاخ المدلل الشاب الطائش بهذه العلاقة الغرامية فينصب له كمينا مع أحد أصدقائه فيقوم بضربه وركله ويتم نقله على إثرها ليعيش غيبوبة لا يعلم مداها ليمثل هذا الحدث بداية السرد “نقطة الصراع”كمية الرواية” ضوضاء الحدث” ويستمر الصراع الداخلي يلون صفحات الرواية ويتحرك في نفوس شخوص العمل إلى اللانهاية.
وقد رسمت الرواية عالما لفضائها أو مكانا حقيقيا وهو المدينة المنورة مع اندماج ثنائية المكان المحصورة بين الواقع الحقيقي والمتخيل “الرؤية” فالمدينة المنورة مكان متعدد الدلالات “غير مغلق”مفتوح على الخارج تجمع في أحشائها عوالم بشرية متنوعة في أعرافها وأعراقها المدينة المنورة بداية العهد الإسلامي التي منها أقر الإسلام شرائعه ووضع أحكامه التشريعية، المدينة التي تجمع شمل المسلمين ففيها لا فرق بين عربي ولا أعجمي إلا بالتقوى.
وتحديد الأبعاد الجغرافيا والمواقع في الرواية ليس مجرد إيهام وإنما للإيحاء بنوع من الإضاءات والفلاشات التي ركزت عليها خاصة في فصل “الصمت والموت” لترسم لحظات الصراع النفسي في نفس “هاشم” وهو يترقب اللحظة لموت ذلك الذي تعدى على حرماته.
والمكان المفتوح متعدد الدلالات يجنح بشخوصه نحو التمدد والانطلاق والانفساح إلا أن خواص المجتمع التي تفيض بالممنوع والمحرم تحيل شخوصها إلى أماكن مغلقة بحيث تمثل كل شخصية محب عاشق مكان مغلق لا نور فيه ولا تمدد ضيق الدلالة ولا تنمو سرديته إلا في أماكن أخرى مغلقة وسط منظومة اجتماعية لا منتهية من العيب “الحرام” العار : (في غرفة باردة في الطابق السابع من دار الايمان انتركونتننتال التقيا للمرة الأولى بعد أشهر طويلة).ولعلها من المفارقة التي أرادت لها الكاتبة بالظهور لتصبح المعادلة كالتالي:المكان المفتوح = مكان مغلق صغير ينتمي بدوره إلى أماكن صغرى.
وتتناغم الذات مع الموضوع من خلال التفاصيل اليومية “الإقحام” وقد أقحمت الساردة البعد النفسي الذهني مع موجودات المكان فتوحدا معا فالمكان لا يعارض الواقع بل هو وسيلة لارتباطهما، وانشطار الذات أزمة وجودية بين واقع مرير وخيال محير في نفسية الساردة وشخوصها فالصمت والموت هو أكثر واقع يخافه “هاشم” : (كل شيء ينأى عنه تاركا له الصمت والموت فر طويلا من الصمت والموت وها هو يدركه -بغتة- إنهما أمامه دائما ركض معتقدا أنه ينأى عنهما ولم يدر أنهما سيكونان بانتظاره).
والموت “الفاجعة” النهاية” الالقاء” هو أكثر ما يهز كيان الأنثى العاشقة الحنونة مع من تحب : (كيف فكرت في ذلك وغفلت عن أن الموت قادر على أن يمحص أصلب الأفكار وأكثرها عنادا وصلفا في الأحوال العادية هزها الموت في كل مرة جاء فيها).
والصراع الذي يؤجج رغبة "لين"، ولون مالك يتجلى في الاحتراق الذي اختارهما هو بدوره وسط مشهد رافض لعلاقتهما بالنمو فـ”مالك” يحترق وتعتمل بداخله الأسئلة تماما كسيجارته التي ما فتئت تنفث الدخان بعيدا "ولين" خلف باب الحمام وحدة مغلقة صغرى تحترق أيضا بطريقتها دموعها ،، نار سؤالها ،، حرارة وجنتيها ،، يقينها ،، الكل يحترق والصيغة تختلف، فالمكان المغلق يجمعهما وكل ينفرد بشؤونه عن الآخر في الاحتراق.
بينما ساهمت الأبعاد الزمانية في وضع تصور واضح عن حال المجتمع المتمدن الذي يعيش ناسه في جاهلية مفرطة وصراع داخلي مع نفسه ومن حوله وبما أن الزمن هو تلك اللحظة الهاربة نحو الماضي بينما ينبع الحاضر من معين لا ينضب هو المستقبل ليصب في وعاء لا يمتلئ ولا يفيض هو الماضي الذي يختزن في الذاكرة إلى حين استرجاعه من خلال التذكرة أو المناجاة “تيار الوعي” المتمثلة في شخصيتي “هاشم” و “لين”.تبدأ القصة بداية زمنية من الآن وتسير الأحداث الزمنية بطريقة تدريجية الآن فالماضي وكأنها ترغب في العودة إلى الوراء لاجتثاث أفكار ذلك الزمن ومعتقداته التي باتت واقع معاش في مجتمع يدعي التحضر ويؤكد ذلك إصرارها على استخدام بعض ألفاظ الأيام والأشهر التي اميت استعمالها وهذا الماضي ليست صورا تستثار في الحاضر وإنما تتغلغل في آنيته لتخلق الصراع العنيف بين الزمنين ويختزل الزمن في بعد واحد “الماضي” وليس ثمة حاضرأاو مستقبل فتتداخل الأزمنة بين الماضي والحاضر لدرجة اللبس لكن اللحظة الآنية هي القابضة على الأحداث محاولة السيطرة على الماضي وتجاوزه أو حتى تحطيمه وكأنها أرادت باستخدامها لتكنيك الأيام والشهور الجاهلية أن تركز الضوء على واقع معاصر وهو بأفعاله يعود لزمن الجاهلية وفي ذلك تناقض حاد وصريح رسمته الكاتبة بذكاء، ويتمثل الزمن الخارجي في الأيام والذي يدور حول استرجاع بعض الأحداث المصاحبة لشخوص الرواية في حين إن الزمن الداخلي الذي يعتمل في نفس الشخصيات “هاشم” ورغبته في الانتقام من “مالك” ولحظة الانقضاض عليه وتعجبه من أخته كيف أحبت هذا الرجل الأسود وما يعتلج في نفسه من لحظات يسرقها للضحك على ضحاياه من النساء، أما زمن لين وصراعها الدرامي فيتمثل مع ذاتها وحبيبها الذي لا عيب يعيبه سوى أنه أسود: (ستكفنه الغيبوبة البيضاء من قال إن الغيبوبة بيضاء؟ من قال إن للغيبوبة لونا؟ اللون! يا أيها اللون ماذا فعلت؟)، ولحظات ألمها من واقع المجتمع الذي ينظر للأنثى نظرة دونية “كان غضب أعوامها الماضية كلها قد سرى في دمها غضب طفلة العاشرة التي وعت مبكرا أنها غير مرضية لكنها لم تفهم سبب ذلك غضب العزلة التي سيجت روحها بها والوحدة التي انهكتها غضب الإهمال والتجاهل والاستخفاف بكل ما حققته في حياتها” وصراعها مع مجتمعها الذي ينظر للآخر بعنصرية شديدة: (أخطأت عندما أحبت رجلا أسودا هل أرتكبت ذنبا في حق الله أو الناس لقد أحبت إنسانا أحبت قلبا من ذهب ولم تنظر إلى اللون لكن أخاها لم ينظر إلا إلى اللون فعاقبها قال لها أبوها إن الناس لن تنظر إلا إلى لونه وسيعاقبونك وأنا لا أريد لك أن تتعذبي).
وفي مقابل هذه العنصرية فإن المجتمع ينظر إلى الآخر الذكر نظرة تبجيل وخاصة من قبل الأمهات : (ألن يعطني الله ولدا؟ أريد عزوة؟ لا أريد أن أموت بين أيد غريبة أريد أن يرعاني في مرضي وعجزي ، فلين ليست لنا).
الرجل في هذا المجتمع لا شيء يعيبه فماذا يعني لو تزوجت فتاة صغيرة رجلا كأبيها : (العمر مسألة لا تعيب الرجل ما من شيء يمكن أن يعيب الرجل وأبوها لم يخطئ عندما زوجها هي فقط من عجز عن احتمال الألم).
وهذا الزمن التداخلي يختلط باللاوعي والهواجس الداخلية إذ نلحظ جدلية الحاضر مع الماضي بصورة مستمرة ومفتوحة على المستقبل أمام القارئ ليضع رؤيته وتأويلاته وهذا بالفعل ما أرادته ليلى في جاهليتها.
وتدعو الساردة هنا لخلق زمن جديد يتجاوز الماضي بكل سلبياته وعنصريته إلى حاضر يعبر عن إيمانه بمعتقداته الحقيقية وليست تلك التي يؤمن بها في ظل أوضاع اجتماعي تبنتها العادات والتقاليد.
وحينما تربط الساردة أحداث العراق وأمريكا بين طيات الرواية فإنها ترسم صورة الأقوى والقادر على تجاوزات عديدة حيث يحق له ما لا يحق لغيره وهذا يصور واقع بعض شرائح المجتمع السعودي، فالرجل المتمثل في الأخ هو الأقوى وإن كان الأصغر ويحق له أن يفعل كل ما يحلو له : (لم يضرك أخ أصغر منك لأنك امتنعت عن تجهيز الشاي له ولرفاقه لم تجربي أن تسأليه بغضب مخنوق بأي حق تضربني فتنهرك أمك اششش لا ترفعي صوتك على أخيك). هذا العدوان أشبه بالعدوان الأمريكي على العراق لذلك نجدها تربك أحداث الرواية بأحداث العراق في كل فصل من فصل روايتها.
وأخيرا:فجاهلية نجحت في كشف علاقتنا مع الآخر في ظل مجتمع يدعي الانفتاح ويؤمن بالشعارات الرنانة دون تفعيل حقيقي لتلك القيم والمبادئ التي أوصى بها الإسلام إن الجاهلية تسكننا مهما ادعينا تطبيقنا لمبادئ الدين فعند أول محك حقيقي تظهر جاهليتنا.
إننا مجرد ذاكرة قولية ولسنا بذاكرة فعلية ذاكرة تجتر الأحاديث والآيات إزاء كل مناسبة وبما يتناسب مع اعتقاداتها.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق