الأربعاء، 25 نوفمبر 2009

صخب الذات الشاعرةقراءة نقدية في ديوان ( هديل العشب والمطر )*( هديل العشب والمطر)، هذه هي بوابة الولوج إلى عوالم الشاعرة لطيفة قاري، والشاعرة في تجربتها قد عنونت لديوانها بهذا الاسم لتكشف عن ذاتها المكتنزة بـاليأس / الشجن/ الألم/ الغربة/ الضياع / الحب/ الوجع/ التمزق/ الخواء/ الحصار/ الخراب/ الجنون/ النشوة، مع ما تكتنف هذه الدوال من مدلولات توحي بالانفصال والاتصال مع الذات الخارجة من عوالم أخرى، والداخلة في عوالمها، الذات التي تتصل أحيانًا بالعالم والموجودات، وتنفصل عنها أحايين أخر، المليئة بالصخب/ التأمل/ الدقة في الوصف/ والاندماج مع كل العوالم المحيطة بها.وقد استمدت الشاعرة هذه العوالم من الذات الشاعرة تلك الذات المرتبطة ارتباطًا بالحقيقة والماهية[1]، و التي تريد أن تكشف عن حقيقة الوجود، وجودها هي، تتأمل حدَّ الاستغراق وفي لحظة الاستغراق هذه يشير الدكتور عبد الواسع الحميري أن الذات (تتوحد مع العالم الذي تنظر إليه، لأنها تنظر إليه بعين الفن بما هو شكل ولون، ولا تنظر إليه على أنه ذاتُه العادية)[2]، ومن هنا تسيطر الأنا في هذا الديوان بشكل سافر مما يعكس الوضع النفسي لكلِّ النصوص التي تحمل هذه المضامين.وتأخذنا الشاعرة في مجموعتها هذه لعوالم مختلفة مليئة بالصخب، ناهلة من مختلف مرجعياتها، مرتكزة على ذاتها الحاضرة في عوالم النص بحواسها ووجدانها وقلق هويتها من جهة، وعوالم الآخر من جهة ثانية في تواصله وانقطاعه، والمكان/ القصيدة الحاملة لذاتها الصاخبة، والمكان/ الجسد وما يمثله من استلاب لتلك الهوية، من جهة ثالثة، وبرغم هذا التنوع، فإن الشاعرة في سعي لخلق جو شعري خالص انعكس إيجابيًا على صيرورة النصوص وضمَّن لها، بكيفية أو بأخرى، توازنا وجاذبية.لقد تعرضت الشاعرة، في هذه المجموعة، إلى مواضيع مختلفة، وجودية ووجدانية، مما يشير بوضوح إلى مدى إلمامها الواسع بالقضايا التي عرضتها، كما أظهرت إتقانًا كبيرًا في تمرير الآراء والمواقف عبر تلك القضايا، فموضوعات الحرية والشعر والطبيعة والمرأة والطفولة والتاريخ والإنسان.. وغيرها، محطات شعرية استوقفت الشاعرة، و عبَّرت عنها فنيًا بحسب التداعيات، التي رافقتها ووجهت وعيها الشعري.وأبرز ما يتجلى لنا حين نكاشف هذه النصوص "جدلية الأنا" التي نجدها طافحة ومسْتعِرة في الهديل الأول، ولا يعني هذا خفوت وهجها في الهديل الثاني، لكنها في هديلها الأوَّل تستعلي على كل شيء فهي أنا مهزومة ممزقة مع عوالمها، فالهواجس يعلو صوتها لتجعل منها ذاتا مهترئة لا وجود يحتوي أحلامها/ طموحها/ رغابتها/ نزقها:أناكلُّ خاطرٍ يجوس بين اللحم والظفرأناكلُّ هذا التنكرِ لحدودِ الوهمِأناكلُّ هذا النهرِمن المصبِّوحتى بداية التلاشي في هاوية الملح [3]إن هيمنة ( الأنا )، وتكرارها في النص يشي بذات تتوق إلى ملامسة الخلاص من التصدُّع والتيه الروحي الذي يجعل أناها منقسمة لأنَّات متعددة، فنراها تمضي في تساؤلاتها المحرقة عن معنى وجودها، مع شعورها بالخواء والتلاشي واللاجدوى، كلُّ هذه العوالم الداخلية المجتمعة تجترُّ متاعبها وأحزانها، والتي ستجعلُ منها شبه شجرة خريفية ظلت أمدًا بعيدًا بعد أن محتها رياح مجنونة، أو كلحظة فرحٍ قابلة للتصدع، إن هي لم تقاوم معاناتها الأزلية في معرفة سرِّ كينونتها:لم أتعر بعدكشجرة صرَّمت تاريخها ريح مجنونةلم أتداع كزوادة الفرحملكت جوامع الغبشوخسرت يقينيوتناءى حداء قافلتيو استوى الجوعيسهِّد منابع الجمرويدك حصون الرملكلما أقبلت سنة [4]فصورة الشجرة التي تعرت بفعل الرياح العاتية، وصورة اللحظات التي تتداعى سريعًا من الذاكرة والشعور، صور إسقاطية لحالة الاضطراب الذي يملأُ أركان ذاتها، لكن هيهات لهذه الذات أن تنفك من هذا الصراع الذي يموج بين سرادقات روحها في كلِّ سنة تمرُّ الذات الشاعرة بعذاباتها، فدوال :" الغبش – الجمر – حصون"، كلها مؤشرات نحو اليأس والصراع النفسي، أما الأفعال المضارعة المصاحبة لها: ( أتعرى – أتداعى – يسهد – يدك)، فقد أوحت للمتلقي باستمرارية هذا القلق الروحي.وقد تفقد الشاعرة ذاتها وسط يوميات الحياة العادية، فقراءة كتاب قد ينسيها وجودها:أنامن أناحين يُجلِسُني كتابٌ فوق ركبتيهويبدأ بتقطيع يومي [5]نشتم رائحة الموت المؤقت للواقع المعيش من خلال استخدامها لدال " تقطيع"، مما يعني أنَّ الذات الشاعرة تعيش عبر هذه الحالة اللاشعورية نوعا من الحصار الخارجي على ذاتها، إن هذه الصورة المشاهدة التي التقطتها لنا عدسة الذات تجسِّدُ القلق البادي على يومها، وكأنها تعبِّرُ بطريقة ما إلى تهميشها من قبل المحيطين بها؛ السبب الذي جعلها تنكفئُ على كتابها لتعيش عوالم أخرى وتنفصل عن عالم الواقع.وهذه الذات في حالة بحث عن هويتها المفقودة في ظل الصراع الأبدي الذي يحتلُّ دواخلها، تتلبسها الأسئلة لتبعثر كينونة وجودها:أنامن أناحين تبعثرني ندواتهاحين يلف الرملذاك الجسد الطريحين أفاجئها بالكلام الذي تعرفهقبل أن يجيب نداء البحر[6]هذه الأنا المتسائلة المتحيرِّة ترتدُّ إلى وهمها محاولة التمسك بآخر خيط من ضوء، وعبثًا تجد الإجابة، لكنها تفاجئنا في المقطع الأخير من هذا النص وتقف بنا عند منعطف يتضاءل وجوده تدريجيًا في الواقع:ألا يكفي أنني امتداد لظل [7]هذه الحالة يمكن وصفها بحالة مائعة لا يمكن الوصول معها لنتائج أو حلول، وكون الذات الشاعرة تَعُدُّ نفسها ضمن مصاف الظل فهي تشعر بتهميشها وبعدم أحقيتها في الوجود تحت ظروف قاهرة، تطالبها بعدم كشف حقيقتها أو انكشاف مساوئها، وبتلك النبرة التهكمية الساخطة المتمثلة في الأداة :"ألا"، تشير الشاعرة إلى هذا المعنى بكل وضوح.إنها ذات مهزومة تحمل فضاءات مشحونة بالتناقض تطالب العوالم الخارجة أن تنهي العذابات والرغبات المكتومة:أثمة نهاية لهذا العذابأثمة بابيؤدي لمنفى الصباحأتقيأ دماوأسئلةورغبة مكتومة في الغيابالعالم يغسل أثمه في دميفتفز العروقصارخة جامحةكمهرة لم يروضها الألممزيدًا من الألمأيتها السماءيشيع في مفردات النص دلالات مكتنزة بالرفض - العبور– الفناء – الحصار- الاغتراب، الاشمئزاز- الخطيئة، من خلال النسيج اللغوي للمفردات :" العذاب- الدم - الغياب- الألم- النفي- الأثم "، والتي ساهمت في إشاعة هذه الرغبة المحمومة بالأسئلة واللا حضور لهذه الأنا في عوالم الآخر، في حين إن الأفعال المضارعة ساعدت في تكثيف هذا المعنى (أتقيأ – يغسل – يروّض – تفِزُّ )، ولتستمتع الروح مع هكذا عذاب، فإنها تستجلب الألم كنوع من التعذيب الذاتي الماسوشي.وهذه الذات الشاعرة التي تسيطر عليها مثل هذه اللغة ما تزال تعيش هذا التداعي الذي يجعل منها ذاتا متبوعة / أغنية أو قصيدة يتعالى صوتها المنكسر في شفاه الآخرين/ الحبيب:أناظلال الشك الآتيوبيت لمحمود أطلقهلأعري انكساري به(( يا ليتني حجر )) [8]إن الخروج من بصمات الأنا المتوارية في شكها، ذاك الشك الذي سوله الآخرون لها/ الحبيب الذي تشتهي صوته الضاج/ الغاضب/ الصاخب / المجنون/ الناعم، ولكنه غائب في غياهب جبه، يجعلها تتمنى أن تكون حجرًا لتعري هذا الضعف المسكون بداخلها والذي كان بفعل قوة خارجة عن إرادتها، وقد استدعت الشاعرة صوت محمود درويش في يومياته لتوحِّد الحالة الشعورية بينها وبين الشاعر الذي كان يعيش حالة من ضياع الهوية، وقد مثَّل لها هذا الصوت الذكوري عنصر قوة في إطلاق صرختها وصوتها بأمنية، وهذه القفلة التناصية "ياليتني حجر"، جاءت بها لتترك علامات من التعجب في نفس المتلقين .وحيثُ إن المرأة جزءٌ من هذه الذات، فإن هذا يكشف عن أن قضايا المرأة هي قضايا الذات المشبعة بالتساؤلات لذا نرى نصوصها مشبعة بقضية علاقتها مع الآخر الذي يشتهيها في عالمه وقتما يرغب وبالطريقة التي يرغبها لا التي ترغبها هي، فهذا الآخر يرفض أن يكون لها كيانا خاصا يشعرها باستقلاليتها:لماذا تغادرني الآنلأنني لم أعد كما تريدأم لأنني أصبحت كما أريد [9]فالمرأة تحب أن تكون مرتبطة بذاتها لتشعر بتلقائية ما يكتنفها من قوة أو ضعف، وهي في حالة هذا الارتباط تشتهي أن تكون في حضرة الآخر/ الحبيب هي ذاتها دون أية رتوش:قل لي من أناأقل لك من أناهكذا تحب المرأةحين تحب [10]وكأنها بهذا التكرار الحواري تتبادل فيه الدور مع الآخر، لتضع له مفتاحًا وسرًَّا هو خاصية من خصوصيات المرأة حين تحب لتكون ذاتها المستقلة، فتسهِّل له العبور نحو عوالمها الداخلية وغزو مشاعرها ببساطة متناهية.وهذا الآخر/ الحبيب يجعلها في صورة تساؤل دائم، محرضًا عوالمها الداخلية للنبش والتأمل والدوران حول نفسها:لأظل أدور وأدورنقطة البدءهي اللا نهايةوطيور سوداء تحلق في فراغيطيور تتشكلطيور تتلاشىطيور تنقر صوتيطيور تشدني من أطراف يقينيلأبصر مالا يذاقولأسمع مالا يرىوليسكرني الصمتشهد الثواني [11].يبدأ النص من أوله بمفارقة بين البدء واللانهاية لتثبت الشيء و نقيضه، مما يوحي بحالة من الهستيريا غير المتزنة تتصاعد تدريجيًا لدى الشاعرة كلما سنحت لمخيلتها الفرص في التقاط هذه الصور المتكررة، فتكرار الطيور أكثر من مرة يشي بصور مشوشة وضبابية غير واضحة المعالم، هذا وقد شكلت المفردات " تحلِّق- تتشكَّل- تتلاشى – تنقر – تشدني – يقيني – يرى - سوداء"، بالإضافة إلى مفردات أخرى - النسيج اللغوي لبعض نصوصها - تداعيا مع ذاكرة الشاعرة لتعمق أناها المتحققة عبر البنى المرئية للعيان والمسموعة، مع وجود مفارقة بين البصر الذي يذاق والسمع الذي يرى، وقد سخرت الشاعرة هذه البنى لأنها وجدت عجزًا في واقع المشاهد، فنقلت الصور المختزنة لتخدمها في نقل أحاسيسها، ولتخلق نسيجها الرؤيوي الذي أفضى في البداية لذات غائبة وأدى في نهاية - تصاعده الدرامي إلى تحويله وهمًا في بؤرة وعي الشاعرة، فلحظة الفراغ والصمت تشعل فتيل الكلام الذي لا يؤول إلا لصمت أو وهمٍ آخر يطبق أنفاس الوقت ويخنق اللحظة المشتعلة بالوهج القديم، فيحول كل لحظاتها إلى فراغ في عوالم الآخر، ومما هو لافت للانتباه وجود مفارقة توحي بالانشطار الكلي عن عوالمها الخارجية تتضمن تناقضًا عجيبًا للصور لدى الذات، فمن البدهيِّ أننا نبصر لنرى الأشياء لا لنذوقها، ونسمع لنستمتع أو نستعذب الحديث لا لنراه، لكن الشاعرة في تعبيرها ربطت بين حاستين متنافرتين، وهي بذلك تقرِّب لنا الصورة الحقيقية لما يعتلج خوالج هذه الذات.ونزعة التحرر من القيود والانطلاق نحو عوالم أوسع رحابة هو أكثر ما يشغل هذه الذات التي تشعر بحصارها وانغلاقها في كهف قد أظلمت عوالمه:هذه الدموعالتي تتحدر بسكينةولوعةحين أعدو إلى قمة سامقةكوعل يرنو إلى مجهول الذرىأعرف أنني لا زلتوجذوتيلازلتفي كهفها [12]إن الرغبة الجامحة والتوق الإنساني للخروج من تلك البوتقة التي تعيشها هذه الذات يجعلها في محاولة مستميتة لكسر هذا الحصار، وقد ساعد الفضاء النصي في إيضاح هذه الصورة حيث بدأت الشاعرة نصها من بداية السطر، ثم تدرجت لتقف عند مفردة ( لوعة)، لتتركها في صفحة تشتمل على مساحات بيضاء، وتتلاحق كلماتها سريعًا كما الوعل الذي يعدو ليصل إلى قمته، ثم تليها نبرة من اليأس لتجعل خاتمة نصها عبارة عن سطرين يمتلئان بالبياض إلا من كلمة واحدة تشي بالانفصال وعدم التوافق بين حروفها، إنها محاولة بائسة فاشلة أفضت بها إلى التساؤل الذي يضجُّ بكاءً والذي لا تعلم كنهه:أهي الزهور التي اشتريتهاتبكينيأم أختي التي قصت شعري أكثرمما ينبغيأختي تسألنيوأنا لا أدريوهي أيضًالا تدري [13]إن هذا التساؤل يعمق الشعور بالغربة والوحشة، مما يخلق لنصها فضاءً مشحونًا بالتوتر والحيرة، لتنهي خاتمة نصها الذي أودعت له عنوان :" كهف"، بإجابة مترددة منشطرة ( لا تدري )، مما يشير إلى أنها ذات غير قادرة على اتخاذ القرار هي والمجموعة /هن التي تمثلها.و تتماهى الذات الشاعرة مع عوالم الآخر/ الشاعر الذي هو جزء آخر منها يتفاعل مع ما يحيط به مصورًا لحظة وجوده، يحكي انثيال الحروف لبدء تكَّون وتخلُّق القصيدة، فالقصيدة كما تقول فاطمة الوهيبي "مرآة ووسيلة لإبراز الذات في تخارج أو إخراج الذات من كينونتها الداخلية وتجسدها على الورق[14]، بل هي مكانها الذي تتجسد من خلاله رؤاها ومعاناتها وأحاسيسها في علاقاتها بالكون والكائنات" [15]، وتكشف لطيفة في إحدى تداعياتها الذات لنا عن ذات الشاعر حالة خلقه قصيدته، والتي عنونت لها :" تداعيات ما بعد الساعة الثالثة ….صباحًا":شموع كثيرة ظلَّت تنزف طوال الليلحتى يكمل الشاعر أبيات القصيدة [16]هذا الشاعر تشظى مع عالمه ليخلق لنا قصيدة نزف لأجلها طوال الليل كما الشموع لتكون كما يريد.أما في نصها الذي عنونت لها بـ :" شاعر"، فلها نفس الرؤية لكن الصراع هنا دائر بين الشاعر ولحظة الكتابة:صداعانثيالك في جوف الحروفانثيال الحروف في نهر القصيدةانثيال القصيدةفي عروق من تحب [17]فالقصيدة تمثل حالة من حالات اللا وعي لدى الشاعر حين يندمج مع الحروف التي ننصاع بسهولة لتخرج من قمقمها الذي ترقد فيه، فتكرار الانثيال يعني حضورها الذي يحمل صفة الانصباب:أيُّ زجاج صلد هيأو أي زجاج صلد همكل يشف عن الآخركل يفضي إلى ملامح تشربهاكما تشربك الأيامواقف هناألوح بقصيدتيعلَّ سيارة يقولونيابشرى [18]إن السؤال الحائر المتكرر ( أيُّ زجاج ) ينبعث من خيبات نفس حائرة مضطربة خائفة من عدم التحقيق لرغبات القصيدة المنثالة، مع مافي الزجاج من دلالات التكسُّر، إذْ إن لحظة الفتك بالقصيدة لتخرج من قمقمها المارد هي لحظة الظفر وإعلان البوح بها عبر عوالم الآخرين، وهذه النزعة الذاتية في الظفر تكتنفها العديد من الإيماءات المتجه نحو التصارع بين الذات التي تعي نفسها كموضوع مع الذات التي تعي نفسها كذات فاعلة خالقة للنص ومنتجة له على حد قول الدكتورة. فاطمة الوهيبي[19]، ليعلن هذا الشاعر فرحه وبهجته بانتصاره وظفره بالنص الذي جعل منه ذاتا تندمج في عوالم الآخر لتعبر عن بؤسه ،تعبه ،فرحه:فأهتفُيا بشرىأتسول تعب الآخرصخب الآخروأنا كون آخرليس له ذاك الدفق الرتيبليس له ذاك الفرح المستعار [20]ومع إنوجاد هذا الفرح إلا أن ذات الشاعر المتخلقة مع ذوات الآخرين، تكتنزها المآسي والآلام التي تعكس المرآة الحقيقة لهذه الذات المعبرة.هذا الشاعر قد اختار القصيدة في نهاية الأمر بعد أن عانى عدم تحقق أحلامه ،آماله وقضاياه، تقول:الكتاب كان يغري بالسفروالأحلام كانت تغري بالعبثوالواقع كان يغري بالموتاحتار الشاعر بينهمثم اختارالقصيدة [21]وهذه القصيدة كما تراها ذات الشاعرة عندما تتخلق فإنها تصدع رأسها بالحكايات التي اهترأت ولم تعد تنفع في ظل الوضع الاجتماعي الذي تعانيه، تقول في نص لها بعنوان:"شعر" مخاطبة هذا الشعر:أنت تصدع رأسي بحكاياتكالتي أهترأ نسيجهافما عادت تستر فاقة الألمصغ لي ذاكرة الأشجاروجمر المستحيلوصلاة الحجرورماد الحدائقوهديل الرملوفاكهة الجنةوضع فوق كفي زمردةتلهب كأس الوقتفضة الأسئلة لو ذوبتهاوسقيتني زبدهالانفتحت كهوف الوحشةفي أحضان جبال تراها هامدة [22]فمخاطبة الشاعرة للشعر باستخدام مفردات فيها نبرة تبخيس لدور هذا الشعر في حياتها، راغبة منه أن يتوقف عن حكاياته المصدعة، تلك الحكايات التي تغزو مستودع الذات لتشوش الصور، مع ما في النص من مفارقات تسهم في إحداث هذا التشويش.وتستوقف الشاعرة كلماتها المعبرة عن هذه الذات، لتبدأ حالة الفصام بينها وبين المعنى المتخلق بداخلها، في مقطع من قصيدتها :" صفحة أولى من سفر الرؤية:أيتها الكلماتلا تعبرينيأنا لست جسرًا يفضي بك إلى المعنىأنا المعنى [23]فانشطار الذات التي تحمل عبء المعنى وتتشظى بداخله لتتكون وتتخلَّق عن الذات المعبرة الفاعلة المرئية مع تكرار الأنا لإثبات أحقيتها وأولويتها، يعني صراعا أبديا يتلبس هذه الذات يشير إلى حالة من اللا توافق بينها وبين نصها.بل وترفض أن تبوح لورقتها بكلِّ ما يختلجها، خوفًا من سلطة عليا قد تكون ذكورية أو وضع اجتماعي يحكمها، تقول في صفحة من سفر الرؤية:لن أبوح لك أيتها الورقة بأكثر مما فعلتسأظل محتفظًا بأسراري في قلبيقلبي لا يميل مع الريحقلبي لا يفتشه العسكر [24]تعلن الشاعرة بقوة أنها ستكتفي بما كتبته عن ذاتها، مع أحقية احتفاظها بباقي أسرارها، فالقلب مستودع الأسرار وخفايا الروح، حتى القصيدة التي كتبتها فقدت قيمتها وجذوة أوارها في لحظة شعرت فيه أن القصيدة لم تعد تعبر عنها:القصيدة التي كتبتهاذبلت بعد يومينوظلت الورقة كما هي [25]فالقصيدة عتبة الدخول لعوالم الذات الشاعرة الداخلية حيث الذاكرة مستودع الأفكار والرؤى والأحلام والتأملات، إنها كما يقول عنها الشاعر هنري كاتيان:" مدار الكلمات ،، ذاكرة هامسة" [26]، فالقصيدة بما تحمله من تطلعات / أحلام / روئ / ذكريات / تلهب الذاكرة، لتشعر ذاتها الجامدة الباردة حرارة هذه الذكريات:حين أشعلت القصيدة فيناجمرة الذاكرةاحترقت أطراف الشتاء [27]وأبرز ما يطالعنا في بعض نصوص لطيفة قاري هو إبراز الجسد بتنوع صوره، ذلك أنَّ الجسد جزءٌ من الذات، ويشكِّلُ هذا الجسد حضورًا حينما يتسنى له أن يختزل اللحظة، إنه على حدِّ رأي عبد العزيز موافي يتشكل "كمادة محسوسة قابلة للمس والاحتواء، وحينها نفقد ذواتنا كأشخاص، ونسترجعها كإحساسات، وبمقدار ما يغدو الإحساس أكثر كثافة، يصير من نعانقه أكثر تحددًا"[28]، تقول الشاعرة، :الشفاه تعانق بعضهالنشعر بالنشوةوالنشوة غادرت أعضاءناوسكنت خيال الشعراءلنشعر بالدفء [29].فإشباع الرغبة الأنثوية يكون بملامسة هذا الجسد، والشفاه جسر يفضي إلى هذا الإشباع المتخيل في ذهن المتلقي، أو كما يرأى موافي في أن الكتابة بالجسد هنا ليس هدفها سوى استثارة ذاكرة المتلقي للرغبات الجمالية" [30].إن كتابة المرأة تفجير لأشياء ينطوي عليها الجسد، وهي كامنة تطل علينا عبر الإيحاءات والإيماءات وتكثف فعلها في جسد الآخر المتماهي والمختلف[31] لهذا كان "النص المكتوب كما يشير محمد نور الدين أفاية امتدادا وجوديا للذات الكاتبة وتكثيفا لأشياء أخرى تتجاوزها[32].والقصيدة " هي الجسد الاعتباري الذي يضاجعه الشاعر، في محاولة الوصول إلى نوع من التوازن النفسي الذي تتغياه حركة الليبيدو، فإذا كانت الطاقة النفسية الفائضة تمور في ظلمة اللاوعي، فإن القصيدة – أيضًا – تتشكل في نفس المنطقة " [33]، والتعلق ببواعث "الجسد"، ورغباته واستبطان نوازعه الداخلية، يفسر شيوع مجموعة من الدوال المؤشرة على مثل هذه النوازع الجسدية من قبيل "الشهوة، النافرة، الطافحة، العري"، تقول لطيفة:الحمى قشرت جلديتحت من أختبئ الآنوأخبئ عروقي النافرةالطافحة بشهوات أبديةهي حجة الطينليستر عريه تحت تلك الطبقة من النسيجالذي لا يصمد لأكثر من 37مْ [34]إن صورة حمى / المرض / الحب وهي تعلو هذا الجسد المادي الطافح بالشهوات والرغبات الأبدية، وتغلي مراجلها في هذا الجسد الذي يتنصل من حالته الطبيعية ليتحول بفعل هذه الدرجة من الغليان من الشهوة الطافحة، والاختباء خلف هذا الجلد الذي تمرَّس على هذه الحالة ليستر حالة مستبطنة داخل هذه الذات.ولنقرأ نصا بعنوان :" فاتحة البكاء"، والذي يتضحُ فيه طغيان هذه الدوال:" الشهوة- سوءة- يواري- نزق- الدهشة- حمم- تنثرني- تبعثرني- ثمار الرغبة- نزت الخطايا"، تقول:منذ أن عقد الشيطان لواءهفوق ذرى الشهوةوتناحر ابني آدم على سرابهذا الصباحأبحث عن غراب يواري سوءة الآتيفلا أبصر غير أفق غادرته الشمسلا أرى غير الدهشة المصبوبة في الوجوهالتي ألفت حمم البركانتغتالنيتمزقنيتنثرني في الشوارع التي ألفت خطوات هذا الجسدهذا الجسدهذا الجسدسوط اللعنة التي نزت من الخطاياتقرَّحتونزَّ صديدهاهذا الصباحالخالي من رائحة القهوةوثمار الرغبةلأنه لا وقت للتيه في سهوب الحكمةمع الحمم التي تهرأت منها الدموعأي بيت سيحضن أوبتيويستر نزق الظهيرةوالصباح فاتحة لهاجس ممضيطــــول [35]إن هذه المفردات التي يكتظ بها النص ( سوط/ نزق/ لعنة/ رغبة/ جسد)، فالذات غارقة في سلبيتها نحو مادية هذا الجسد، مما جعلها تعيش صراعًا عنيفًا مع هذا الجسد الذي تمثلت فيه الخطيئة بكلِّ أشكالها، وهي في محاولة بائسة لستر هذه الرغبة الجامحة التي تظهر آثارها على هذا الجسد في صورته المادية، وتسيطر على هذه الذات هواجس تستلب مخيلتها ليطول بها زمن هذه اللحظة التي تفتح عليها باب الرغبات.وأمام السلطة الذكورية والقمع الاجتماعي الذي يخالج هذه الذات، تجعل أناها أنا ذكورية في محاولة لإنكار الذات الأنثوية ليس من طرفها ولكن من طرف الآخر:أنت غريب عن القبيلةأعرفلكنني أنا أيضًا غريبمع أنني لم أغير جلدي سوى مرة واحدةألقيت إليهم بثوبيالذي مزقته الغوايةوبقيت عاريًا إلا من حكايا جدتيومن نزغات الشياطين [36]وفي لحظة تقمص شخصية الآخر، تعرِّي الواقع، فإنكار القبيلة هذا النزق، أجهض توق الذات نحو الخلاص لتدخل عوالم صوفية تتجلى فيها نحو الكمال الذي ليس هو باختيارها، وإنما باختيار الآخر:هل تحفظ الفاتحةإذًا اقرأ على روحيوكن ملاكًا كما أشتهيونبيًاكما يشتهونالنبوة في حينًاواجب وطني [37]فانشطار الذات بين ما تشتهيه هي وبين ما يشتهيه الآخرون يفضي إلى التناقض الذي تتماهى فيه الروح مع الجسد بنزقه ليعبر كلٌّ منهما عن هويته الحقيقة، ففعل الأمر ( كن )، هو فعلٌٌ قسري موجه لفرد ضمن منظومة اجتماعية تجبره على أن يلبس أقنعة متعددة ويخفي حقيقته.وفي نص لها بعنوان :" نشوة"، تقول:أبتسموأنا أدقُّ بقدمي على الأرضوأضحكوأنا أنزع تويجات زهرتيوأبكيوأنت تسطو على دفء غاباتي [38]يقال: سطى اللص على المتاع: انتهبه في بطش وأخذه بفعل القوة والعنف، والفعل: (تسطو) هنا بما يحمله معجمه اللغوي يعني الاعتداء والاغتصاب المستمر، وسطوة الآخر على هذا الجسد لهو من دواعي دخول الذات في مرحلة من الانشطار الذي يشعرها بأنها ذات مستلبة من قبل ذوات أخرى أقوى منها، هذا الجسد الذي ما عاد قادرًا على المقاومة فتصدعت خلاياه كما تقول:هذا الجسد الواهيتتصدع خلاياهكلما تغاوى شهروأنَّ قمر [39]ونلمح في بعض نصوص الشاعرة علاقة بين الجسد وبين فعل الكتابة، فما الجسد إلا إناء للكتابة، وحين ينطفئ الجسد تنطفئ الكتابة، وبالتالي فإبادة ثقافة لا بد أن تتبعه خطوة إبادة الجسد كما أشار الناقد يوسف أبو لوز في إحدى مقالاته، إذْ إنَّ هذا الجسد كما يوضحه الدكتور.فريد الزاهي[40] :" موضوع النص ومنبع معطياته ومنتجه ومتلقيه في الآن نفسه"، والذات الشاعرة تشير بأصابع الاتهام إلى وجود معتد يحاول بشتى الطرق أن يجهض هذا الجسد لتمتنع عن الكتابة، تقول في :" تداعيات ما بعد الساعة الثالثة…. صباحًا":من أطفأ جسديالآن لم يعد ثمة ضوء نهتدي بهإلى نبع الحروفمن أطفأ جسديمن أطفأ الحروف [41]إن هذه الخيانة التي مارسها الآخر في إطفاء وهج هذه الجسد والذي هو إناء تتموضع فيه أفكارها ورؤاها ورغباتها وتعبيرها الأنثوي عن احتياجاتها وكل ما يختزن عوالمها الداخلية، هي خيانة مشروعة ومدروسة لإطفاء نبع هذا الينبوع الكتابي.لقد ساهم التشكيل الجمالي للديوان في إبراز الذات المنشطرة والمفتتة في تجربة الشاعرة لطيفة قاري، وهذا الديوان كمنجز إبداعي يختلف في تجربتها عن التجربة السابقة: "لؤلؤة المساء الصعب"، الذي اشتملت نصوصه على القصيدة التفعيلية، لتلجأ إلى ما يسمى بالقصيدة النثرية، والذي هو بدوره نوع من انشطار الذات التي رأتْ – من وجهة نظري - أن قصيدة التفعيلة تجعلها تحجم عن مساحات التعبير، فاختارت القصائد النثرية، والقصيرة ذات الومضات المكتنزة بالدلالات العميقة، والتفتيت الدقيق للفكرة، لتنقل لنا عوالم الذات الداخلية بصورة أكثر كثافة، وتعبر عن الأنثى وتأملاتها الذاتية والشاردة بكلِّ دقة ومصداقية.أخيرًا:استطاعت الشاعرة في مجموعتها: " هديل العشب والمطر"، أن تبحر بنا نحو عوالم ذاتية ماتعة لأنات متعددة، لنعيش ونتعايش مع مجموعة من الذوات / المنشطرة / المتألمة المتداعية/ المبدعة / المتأملة، الذات التي ترغب بعوالم أخرى تخرجها من عوالمها الداخلية إلى عوالم أكثر رحابة وهي عند خروجها لهذه العوالم تصطدم بالواقع الذي يجعلها أكثر إنكفاءً على ذاتها وتفتتًا معها، إنها علاقة طردية تحتاج إلى دراسة أخرى متأنية في أعماق هذه الذات مرة أخرى.ولا أدَّعي الكمال في هذه الدراسة المبسطة، فإن أصبت فمن الله، وإن أخطأت:فما أبرئُ نفسي إنني بشرٌ يسهو ويخطئ ما لم يحمه القدرُ* نُشرت في مجلة الآطام، العدد 30 في السنة العاشرة .1- يُنظر: الذات الشاعرة في شعر الحداثة العربية، د. عبدالواسع الحميري، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع – لبنان، ط:1، 1419هـ - 1999م، ص 112- الذات الشاعرة في شعر الحداثة العربية، مرجع سابق، ص 453- الديوان، ص 50/ 514- الديوان، ص 50/ 515- الديوان، ص 706- الديوان، ص 727- الديوان، ص 728- الديوان، ص 559- الديوان، ص 12210- الديوان، ص 12211- الديوان، ص 99/ 10012- الديوان، ص 9613- الديوان، 9814- المكان والجسد والقصيدة- المواجهة وتجليات الذات، فاطمة الوهيبي، المركز الثقافي العربي- الدار البيضاء، ط:1، يونيو 2005م، ص 16215- المكان والجسد والقصيدة- المواجهة وتجليات الذات، فاطمة الوهيبي، المركز الثقافي العربي- الدار البيضاء، ط:1، يونيو 2005م، ص 4316- الديوان، ص 12217- الديوان، ص 9518- الديوان، ص 9519- المكان والجسد والقصيدة- المواجهة وتجليات الذات، فاطمة الوهيبي، المركز الثقافي العربي- الدار البيضاء، ط:1، يونيو 2005م، ص 16620- الديوان، ص 6021- الديوان، ص 13722- الديوان، ص 42/ 4323- الديوان، ص 13124- الديوان، ص 13325- الديوان، ص 13726- نقلا عن شاعرية أحلام اليقظة – علم شاعرية التأملات الشاردة، غاستون باشلار ت. جورج سعد، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع- بيروت، ط:1، 1411هـ/ 1991م، ص 3027- الديوان، ص 12428- عبد العزيز موافي- قصيدة النثر من التأسيس إلى المرجعية- المجلس الأعلى للثقافة- القاهرة، 2004م، ط:1، ص 15829- الديوان، ص 12430- يُنظر: عبد العزيز موافي- قصيدة النثر من التأسيس إلى المرجعية- المجلس الأعلى للثقافة، مرجع سابق، ص 16031- مقال بعنوان:" الجسد الأنثوي وفتنة الكتابة" لعبد النور إدريس. 23- محمد نور الدين أفاية، الهوية والاختلاف في المرأة والكتابة والهامش، إفريقيا الشرق – الدار البيضاء، 1988، ص:41، نقلاً عن مقال بعنوان:" الجسد الأنثوي وفتنة الكتابة" لعبد النور إدريس.33- قصيدة النثر، مرجع سابق، ص 16234- الديوان، ص12635- الديوان، ص3636- الديوان، ص 3237- الديوان، ص 3238- الديوان، ص 8539- الديوان، ص 9040- د.فريد الزاهي " النص والجسد والتأويل" إفريقيا الشرق، الدار البيضاء سنة 2003م، ص 19/ 2041- الديوان، ص 122
















































ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق