الأربعاء، 25 نوفمبر 2009

انشطار الذات بين الأنا والآخر في رواية «الطريق إلى بلحارث»
ينحو العنوان في رواية «الطريق الى بلحارث»، منحى مكانيا ممتدا قد يقصر أو يطول، في كونه يمثل مسافة زمنية للوصول إلى هدف في فترة محددة، كما يجمع «الطريق» مجموعة من الأشخاص الوافدين والمواطنين تتعدد رغباتهم، لكن طريقهم واحد.
وتمثل شخصيات الرواية «عماد، منصور، علي وزوجته المعلمة»، فئة الوافدين الذين ارادوا تحقيق حلم يختلف ويتنوع حسب نفسياتهم، حيث الرغبة الكامنة في تحقيق حلم نسج خيوطه بين هذه الشخوص، فالأمل المرتقب قد مات متمثلا في فجر الذي مات وهو في مهده، وهذا يشير اشارة لا تخفى على احد منذ القراءة الاولى للنص من عدم امكانية تحقق الحلم الذي سعوا جاهدين اليه، وتكبدوا عناء الطريق لأجله، ان هذا الطريق المحفوف بالصعاب هو صورة حية لحلم جسده هذا الواقع الماثل، لحلم غائب كان الوصول اليه أصعب من الوصول الى بلحارث تلك القرية البسيطة التي تفتقد لكل تقنيات وسائل الحلم الحقيقي.
وهذا الحلم ليس هدفا حضاريا او وسيلة تعليمية كما يحاول الراوي/البطل ان يرسمها على شخصية بطله وانما كان هدفها اختصار الزمن (انني أثمن يا حبيبي رسالتك الحضارية التي تؤديها في مجاهل الصحراء، لكنني لست على ثقة من انها كانت الهدف من وراء سفرك..)، وفي سياق هذا الوضع فان الشخصيات التي مثلت منصور وعلي لا مستقبل لهما، لانهما في حقيقة الأمر لم يكن هدفهما الرسالة الحضارية التي يدعيها عماد، فالبحث عن المال وجمعه يتناقض مع الرسالة الحقيقية (لانني اريد ان اجمع اكبر قدر من المال)، لكن العيش بسلام هدف آخر او حلم يسعى على لتأكيده (باختصار نريد ان نعيش) ففجر الغائب الماثل كان حلما فارق الحياة بمجرد ولادته وهو نهاية صغرى ايذانا للنهاية الكبرى، وقد ولد هذا لدى والده علي انه لا طائل من وراء هذا الحلم (ووجدت انني اخيرا اركض وراء سراب لن أمسك به)، لقد توصل علي الى الحل باستقالته فالحلم بعيد المنال قد يولد كفجر ويموت (الهدف.. ما الهدف؟ اعيش هنا كالكلب، منسي، وفي غمرة الفضول والذكريات، يسأل عني صديق في الوطن، او امرأة ابيض شعرها، ونحل جسدها، او ربما فتاة، بيضاء وردية، لم يعد لي في ذاكرتها سوى لحظة وداع، ما الهدف؟ ما الهدف؟)، ويدرك عماد هذه الحقيقة التي يصر علي عليها (كأنه يكتشف نقطة ضعف رهيبة في كيان خصمه)، والتي تثير التساؤلات في نفس هذا الخصم: ماذا فعل من اجل الوطن هذا ما كان ينتابه ويجعله يرتطم بالواقع، وفي المقابل منصور الشخصية العبثية الذي حاول التأقلم مع اهل القرية وخصوصا مع شخصية بوعايظ فراش المدرسة من اجل حلم يراوده «ظفرة» المرأة تلك المرأة التي حلم بها لقد مات وهو يهذي باسمها.جميعهم ساروا نحو اتجاه واحد الا وهو الحلم الذي مات وليدا في نفس كل واحد منهم، وعادوا الى اوطانهم بعد ان تركوا كل شيء وخلفوا وراءهم ذاكرة مهترئة تبحث عن اسئلة لتبرر لها سر هذا الحلم الحاضر الغائب.ان هذا الطريق المحفوف بالصعاب هو صورة حية لحلم جسده هذا الواقع الماثل، لحلم غائب كان الوصول اليه اصعب من الوصول الى بلحارث تلك القرية البسيطة التي تفتقد لكل تقنيات وسائل الحلم الحقيقي.ويتراءى لنا بداية حضور ذات الراوي، وهو البطل هنا، من حيث كونها ذاتاً غير حاضرة حضورا فعليا مع الأحداث، ولا يعني عدم حضورها وتفاعلها مع الاحداث تفاعلا سلبيا، بل هي ذات واقعية متأملة متفكرة تنظر للامور بواقعية عميقة تصور وترصد الواقع بكل آلياته تصف المكان المتمثل في مدينة جدة (يلتهمني زحام جدة، سياراتها الملونة الجميلة، عماراتها الرمادية المطفأة غبارها والشاطئ الزنكي عند واجهتها البحرية..)، تصف القنفذة :(بيوت طينية، سوق صغير، شوارع ترابية دكاكين..) وواقع الطريق الرملي الممتد المظلم السراب، والقرية بلحارث :(تقع اسفل جبال عسير التي قرأنا عنها في تضاريس الجزيرة العربية حينما كنا صغارا..) ويركز على ما يعانيه شخوصها من بؤس وهو بالتالي لا يعني انفصامه عن الآخر وقطع تجربته عنه.ان هم الراوي البطل كان في المقام الأول منصبا في ابراز معاناة الغير من الوافدين، ومعاناة تلك الشرائح التي تمثل شريحة من المجتمع المحلي السعودي من اهل القرى في فترة زمنية كانت فيها تلك القرى تعيش حالات الجهل والتخلف والمرض.والبطل امام هذا الوضع يعيش بين وجودين وجود داخلي/ذاتي، ووجود خارجي/غيري، يرغمه الوجود الداخلي على الانزلاق نحو لحظة القلق المسيطرة على تصرفاته وسلوكه فهو مرة يقرر الهرب والهرب هو الوسيلة الوحيدة التي يتقنها البطل (الهرب؟ انها حقيقة مذهلة، ان يهرب الانسان، لو هرب والدي من الحرب لبقي حيا الى الآن، لو هرب..) في حين يرى ان الحياة في الصحراء كفاح لا ينبغي الهرب منه (كل الذين يعملون في هذه الصحراء، صامدون، الاستقالة تعني الانثناء، التراجع، الحياة هنا كفاح، من نوع ما، يجب أن لا نهرب من هذا الكفاح).وكلما ازداد علو المرء في درجة التطور الحضاري كلما كان ذلك كفيلا بزيادة حدة الألم والقلق الوجودي، ومن الواضح ان البطل كان يمر بهذه الحالة نتيجة للوضع الذي يرفضه منذ البداية، في حين ان منصور تأقلم مع تلك الحياة البسيطة فهو هادئ في مواقفه مع اهل القرية ومع وجوده فيها (قال لي ذات مرة محاولا فلسفة وجوده هنا بأن الحياة بسيطة انه لا وجود لتلك التعقيدات التي يفاجأ بها المرء في المدن..) وهذه الحياة البسيطة تعني راحة البال فلا أحداث جسيمة تهدده، ولا مدنية قد تطغى على ذاته، انما يبلغ الشعور بالوجود اعلى درجة في حالة الفعل الباطن الذي أنشب اظفاره في الحياة المضطربة.ومع هذا فان حضور الذات هنا كان حضورا دراميا فهي تدرك انها لا تقف وحدها في هذه الحياة بل يشاركها اخرون فيها بمعنى ان ذاتها لا تقف بعيدا عن بقية الذوات، فهي ذات تتفاعل مع العالم الموضوعة فيه، وفي ذات الوقت تنفصل عنه متجاوزة الوجود الزائف الى الوجود الأصيل، ما يعني غيابها بشكل فعلي عن الواقع والحياة المعيشية، فتجربة السفر الى المملكة في حد ذاتها معركة خاضها البطل منذ بداية حياته، ثم اصطدامه بالواقع الذي لم يتوقعه ومع هذا ظل يتابع الحياة مصورا أبرز وقائعها ودورتها وسعيه الدؤوب لفهمها وتوسيع مداركه مع التناقض الذي يسهم في التفاعل مع كل هذه الأحداث، ومع لهجتهم المحلية التي استطاع ان يرسمها مع الواقع المعاش، وهذا يعني ان شخصية عماد ليست شخصية عاجزة عن التواصل بل هي من أكثر الشخصيات تواصلا مع ذاته، والآخرين في اقامة حوار بينه وبين من حوله، وقد خلف هذا صراعا داخليا مستميتا ومقلقا.ان الذات الوجودية تقدس الحب لكنها في المقابل ترى ان الحب -الايروس- لا يمكن ان تتحقق لذاته واثرائه الا عن طريق الاحساس بالبعد (احب نادية، واعلن الآن رحيلي) فكلما كان الحب صعب المنال كلما كانت حركته مستمرة متوثبة (هي لم تغب عني كانت لكنها تتسرب الآن ككل تلك الاشياء التي خرجت من داخلي واهابي الى حيث لا رجعة ..) حتى عندما اعلم اخاه منصور بخبر حبه لنادية خفت بريق الحب في نفسه ولم يعد ذلك العاشق الذي يتحدث عن محبوبته كما كان.اما منصور فهو رجل محروق بالشهوة يعترف بالحب لكن حبه لـ «ظفرة» حب من نوع اخر حب تتجسد فيه حضور اللذة بالدرجة الاولى (لكن حبي من نوع اخر) والرغبة في الحصول عليها ان الحياة في نظر منصور مجازفة لكن المرأة الانثى وهو هنا لا ينكر هذا القلق الجسدي الذي يعتريه هو ومنصور نتيجة لتلك الرغبة العارمة، في حين يحتل مجرد التفكير لدى اهالي القرية البسطاء جل تفكيرهم، فبوعايظ (يبدو للوهلة بريئا، يتحدث كطفل، يسأل عن بديهيات، حتى اذا انتقل الحديث الى موضوع النساء تغيرت طريقته في الحديث، وارتفع حاجباه بين الحين والآخر)، ومعيظ مدير المدرسة الذي لم يكتف بما لديه من نساء بل طمع في زوجة بوعايظ وطلقها منه ليحصل هو عليها.وهذه الذات حينما ترفض الآخر لا ترفضه رغبة منها في التعالي عليه، وانما لأن ادانتها للآخر ليست نابعة من كونه القروي المتخلف والبدائي بقدر ما هي ادانة للأسباب التي كانت وراء هذا السلوك البدائي غير المتحضر، ونتيجة اخرى لشعور هذه الذات بالغربة التي جعلتها تنفي الآخر وتستقصيه:(هي الغربة يا نادية، وانت غريبة ايضا مسافرة حيث انت)، فهو يعيش بين غربتين غربته عن وطنه الحقيقي فلسطين وناديه تشاركه هذا الهم، وغربته عن وطنه عمان الذي عاش فيه، اضافة للحيرة والتردد الواضح على معالم شخصيته، والبطل كان منفصلا عن ذاته مع المكان وقد خول هذا تكريسه للملاحظة الموضوعية التي أتاحت له التأمل واحتواء المكان بتصويره بحرفة واقعية متأملة.ان حالة الوعي والاستلاب «الذهول» هذه كفيلة بالتأمل وابراز الحقائق بصورة واضحة للعيان وبدقة متناهية.ولا يمثل المكان اي مقوم من مقومات البقاء، وقد احدث هذا صراعا بينه وبين ذاته ذات تلفظ المكان وتستقصيه فهي غائبة عن المكان حاضرة باتصالها بذاتها، واخرى تحاسب ذاتها الموجودة والمتفاعلة مع المكان، فهي حاضرة في المكان غائبة عن الذات، وكلاهما يحاول الالتحام للخلاص من هذا الشقاء النفسي الذي ولدته غربته عن المكان، انه يقف عاجزا امام ذاته التي تصر على ترك المكان لكن ذاته الحاضرة الذات المادية تتشبث به وفي النهاية تنتصر الذات المنشطرة على المكان ويعود عماد خالي الوفاض دون ان يختصر الزمن.ويرتبط المكان ارتباطا وثيقا بالحرية فالحرية هي مجموعة الافعال التي يستطيع فعلها الانسان دون ان يصطدم بعقبات او حواجز فحرية البطل مقيدة في هذا المكان القرية، وقد ولد هذا الاقصاء المكاني في تلك القرية البعيدة حتى عن السعوديين انفسهم، شعورا بالزمان واحساسا عميقا به، فعدم الاندماج مع الاخر هو نتيجة لوقع الزمن المتباطئ الذي يشعر به البطل وهو الذي جعله يعيش صراعا داخليا وحوارا مستمرا مع ذاته.لكن الزمن في الرواية يعد فاعلا رئيسا في شخصية البطل المنشطرة التي ارادت ان تختصر الزمن الذي ابى الا ان يظل جامدا ثابتا فامتنعت عنه الحركة والتطور خمس سنوات لم يتمكن عليّ خلالها من ان يشتري الارض التي لطالما حلم بها، ويوم السبت مرتبط بالمكان منذ ان بدأ عماد عمله الرسمي في الصحراء (ذات مرة حاولت مهادنة هذا اليوم -السبت- احضرت قلما ودفترا ووضعت كافة الاحتمالات التي أدت الى هذه العداوة التقليدية بيننا -انا والسبت- فعثرت على سبب واحد هو ان السبت اول ايام الاسبوع وان كلمة السبت تحمل في طياتها عملا متواصلا لمدة ستة ايام).مما يعني ان العدائية وعدم المصالحة كانت بارزة في شخصية البطل حيث كان يشعر في قرارة ذاته انه مستلب مقصي منشطر بينه وبين ذاته والمكان والزمان.ويبدو ان البطل يرغب بتسارع الزمن والوقوف في وجهه وسحقه لكن هيهات:(تقول في رسالتك بأنك ستختصر الزمن وتختصر الشقاء لتعود قادرا على عمل المستحيل ايمكن ذلك ياعماد ومنصور مازال يختصر الزمن مثلك حينما عاد في العام الماضي، كان محملا بالريالات والهدايا فهل اختصر الزمن) ان هذا الاحساس العميق بتوقف الزمن وتباطئه لدى ناديه مرتبط باحساس يتخلله الخوف والضجر والملل لبعدها عن حبيبها (كم هي قاسية حياتي بدونك يا عماد وكم هي ثقيلة مدحلة الساعات وهي تمشي ببطء) فهذه الجدلية بين اللحظة الحاضرة وبين مستقبل عماد الذيي يكتنفه الكثير من الغموض لم تجبره على اتخاذ موقف او قرار الرحيل لاجل ناديه.وذاكرة الراوي عماد ذاكرة مبعثرة بين ماض موجع مليء بذكريات الوطن والأهل والحبيبة وحاضر مؤلم تكتنفه غربة موجعة وواقع بائس، يطمح من خلاله لحلم يستشرف مستقبلا مشرقا له ولأهله ومحبوبته (اخطط لمستقبل مشرق مع ناية احلم ببيت كنت.. ).وقد خلق هذا الحاضر في ذاته اضطرابا نفسيا افقده توازنه (ماذا افعل؟ سأشرب يا منصور) نعم شربه بالرغم من رفضه له ومحاولته غير المجدية مع منصور للتخلص منه (ورغم انني كنت اشاركه شرب الخمر الا انني كنت مستعدا للاقلاع عن هذه العادة المستجدة علي لا ادري ان كانت طريقتي في الاقناع غير موفقة).ولكي يتسنى لمنصور استلاب الزمن/وسرقة لحظاته، لجأ للخمر والمخدر/القات:(انه مركب الى عالم آخر ينقلك الى دهاليز غيبية وذكريات لم تحصل بعد ابدأ، انه صانع الذكريات لمن لا ذكريات له، تأكله كالأرنب، تقرضه وتمتص عصارته، وتستمر في امتصاص العصارة حيث تبدأ بالنسيان، تنتقل الى عالم آخر يا عماد، ترى اشياء لم تعهدها..)، ان منصور يريد الغاء لحظته الحاضرة بنسيانها واللجوء الى القات المخدر لينتصر لمستقبله والذي تؤكد تصرفاته وسلوكياته ويحقق عقله اللاواعي، وبناء عليه وبطريقة لا شعورية يتوقع توقعا جازما في عقله الباطن عدم امكانية هذا الحلم/المستقبل، ذلك ان الحاضر لحظة آنية ماثلة تتحرك في الزمن، وتقودها حركتها باتجاهين حيث تتراكم على الماضي وتستشرف المستقبل الذي لا حدود له، والحاضر يمتد ليتجه عبر المستقبل الذي يفلسفه عماد في قوله (اليوم وغدا وكل الأيام خمر..) عله ينسى أو يتناسى الماضي وذكرياته والحاضر وواقعه المرفوض في قرارة نفسه، اما علي فيقرر الاستقالة فالزمن لم يكن كفيلا بتحقيق حلمه المستقبلي.والموت الذي كان نهاية حتمية لشخوص الرواية موت البطل وحلمه وانشطاره مع الأنا والآخر، موت طفل علي -فجر- واحلامه في شراء الارض، وفي نهاية المطاف موت منصور ذلك الشاب صاحب النكتة الطريفة والروح المليئة بالحب والحنان.والوجود كما يرى هيدجر فرار من المواجهة، من الموت، (لحظات الموت ليست اكثر من حالة تتأرجح بين القبول والرفض، بين الحلم والحقيقة..) كما يصفها عماد وهو يرى جسد منصور مسجى على السرير.في حين ان قلق الموت الذي انتاب منصور واحسه كان نتيجة لاستجابة انفعالية تضمنت مشاعر ذاتية من عدم السرور والانشغال المعتمد على تأمل او توقع اي مظهر من المظاهر العديدة المرتبطة بالموت :(لست خائفا يا عماد من لقاء ظفرة، لكنني اليوم اتطير، انا اعرف اليوم من أوله كالرسالة من عنوانها).ان استقالة علي هي رغبته في الحياة ذلك ان اكثر الرغبات التي تحرك الانسان نحو الاشياء والافعال هي رغبة من الموت: لانه حقيقة، ونقيضه الحياة تلك التي يرى انها :(كذبة تستهوي الانسان فيصغي لها جيدا، يعيشها حتى اذا ما نظر الى ساعته اكتشف ان اثمن اوقات النهار قد ضاعت..) ويصارع عماد ثنائية البقاء والفناء محاولا تفنيد اقوال علي (فأحس باتساع الهوة بين النقيضين في داخلي).منصور يؤمن بالقضاء والقدر ويرى ان الموت بيد الله، رادا على تساؤل علي :(هل تنكر فعل القضاء؟ هنا أنكر كل شيء الا الموت، لانه الشيء الوحيد الذي ألمسه).
والزمن -المائي- واضح في هذه الرواية فالأمنيات قد تحولت الى منيات (درجة الصفر للحياة انما هي الموت). ان الموت هو النهاية الحتمية فـ (كل الأشياء تشير الى النهاية).ان الوجود في الموجود/المكان أثار هذيان عماد :(انني مجرد كتلة لحمية تترامى على ظهر الدراجة، في الواقع لم اكن ادري اي خلاص هو الذي اردته)، وكان لهذا الهذيان القفزة الاولى لاتخاذ القرار خاصة بعد ان وجد ان حلمه بدأ يرتطم، وان بقاءه لن يخلف له سوى ذكريات قد تطوى بفعل الزمن او تظل عالقة في ذاكرة اللاشعور، ثم كان موت منصور الذي كسر حالة الانشطار والتردد التي تميزت بها هذه الشخصية المستلبة في ظل الواقع الذي وقفت منه موقفا مترددا برغم تصويرها لكل وقائعه واحداثه من مكان وزمان ولهجة وشخوص.

مفارقات الجغرافيا وإيحاءات الصمت الزمكانية في «جاهلية » ليلى الجهني

تضع رواية جاهلية يدها على الجرح وتنثر الملح بكل وضوح سافر فهي تتمركز حول قضية اجتماعية متزامنة مع ثلة من القضايا المساهمة وبشكل فعال في إحداث ثورة درامية ملحوظة ونقلة نوعية داخل مجتمع مدني في صورته مشكوك في مصداقية تبنيه للقضايا والتزامه الشديد بها وذلك لاعتبارات عدة تقف على أولها مسائل العرف والعادات والتقاليد السائدة وتصور قصة فتاة سعودية تدعى “لين” وما يحويه اسمها من دلالات الليونة التي تعني قابلية كسرها وقعت في حب شاب اسود يدعى “مالك” مع ما يحمله اسمه من دلالات توحي باستبعاده ناهيك عن أنه لا يحمل الجنسية .
تجري أحداث الرواية بمعرفة “هاشم” الاخ المدلل الشاب الطائش بهذه العلاقة الغرامية فينصب له كمينا مع أحد أصدقائه فيقوم بضربه وركله ويتم نقله على إثرها ليعيش غيبوبة لا يعلم مداها ليمثل هذا الحدث بداية السرد “نقطة الصراع”كمية الرواية” ضوضاء الحدث” ويستمر الصراع الداخلي يلون صفحات الرواية ويتحرك في نفوس شخوص العمل إلى اللانهاية.
وقد رسمت الرواية عالما لفضائها أو مكانا حقيقيا وهو المدينة المنورة مع اندماج ثنائية المكان المحصورة بين الواقع الحقيقي والمتخيل “الرؤية” فالمدينة المنورة مكان متعدد الدلالات “غير مغلق”مفتوح على الخارج تجمع في أحشائها عوالم بشرية متنوعة في أعرافها وأعراقها المدينة المنورة بداية العهد الإسلامي التي منها أقر الإسلام شرائعه ووضع أحكامه التشريعية، المدينة التي تجمع شمل المسلمين ففيها لا فرق بين عربي ولا أعجمي إلا بالتقوى.
وتحديد الأبعاد الجغرافيا والمواقع في الرواية ليس مجرد إيهام وإنما للإيحاء بنوع من الإضاءات والفلاشات التي ركزت عليها خاصة في فصل “الصمت والموت” لترسم لحظات الصراع النفسي في نفس “هاشم” وهو يترقب اللحظة لموت ذلك الذي تعدى على حرماته.
والمكان المفتوح متعدد الدلالات يجنح بشخوصه نحو التمدد والانطلاق والانفساح إلا أن خواص المجتمع التي تفيض بالممنوع والمحرم تحيل شخوصها إلى أماكن مغلقة بحيث تمثل كل شخصية محب عاشق مكان مغلق لا نور فيه ولا تمدد ضيق الدلالة ولا تنمو سرديته إلا في أماكن أخرى مغلقة وسط منظومة اجتماعية لا منتهية من العيب “الحرام” العار : (في غرفة باردة في الطابق السابع من دار الايمان انتركونتننتال التقيا للمرة الأولى بعد أشهر طويلة).ولعلها من المفارقة التي أرادت لها الكاتبة بالظهور لتصبح المعادلة كالتالي:المكان المفتوح = مكان مغلق صغير ينتمي بدوره إلى أماكن صغرى.
وتتناغم الذات مع الموضوع من خلال التفاصيل اليومية “الإقحام” وقد أقحمت الساردة البعد النفسي الذهني مع موجودات المكان فتوحدا معا فالمكان لا يعارض الواقع بل هو وسيلة لارتباطهما، وانشطار الذات أزمة وجودية بين واقع مرير وخيال محير في نفسية الساردة وشخوصها فالصمت والموت هو أكثر واقع يخافه “هاشم” : (كل شيء ينأى عنه تاركا له الصمت والموت فر طويلا من الصمت والموت وها هو يدركه -بغتة- إنهما أمامه دائما ركض معتقدا أنه ينأى عنهما ولم يدر أنهما سيكونان بانتظاره).
والموت “الفاجعة” النهاية” الالقاء” هو أكثر ما يهز كيان الأنثى العاشقة الحنونة مع من تحب : (كيف فكرت في ذلك وغفلت عن أن الموت قادر على أن يمحص أصلب الأفكار وأكثرها عنادا وصلفا في الأحوال العادية هزها الموت في كل مرة جاء فيها).
والصراع الذي يؤجج رغبة "لين"، ولون مالك يتجلى في الاحتراق الذي اختارهما هو بدوره وسط مشهد رافض لعلاقتهما بالنمو فـ”مالك” يحترق وتعتمل بداخله الأسئلة تماما كسيجارته التي ما فتئت تنفث الدخان بعيدا "ولين" خلف باب الحمام وحدة مغلقة صغرى تحترق أيضا بطريقتها دموعها ،، نار سؤالها ،، حرارة وجنتيها ،، يقينها ،، الكل يحترق والصيغة تختلف، فالمكان المغلق يجمعهما وكل ينفرد بشؤونه عن الآخر في الاحتراق.
بينما ساهمت الأبعاد الزمانية في وضع تصور واضح عن حال المجتمع المتمدن الذي يعيش ناسه في جاهلية مفرطة وصراع داخلي مع نفسه ومن حوله وبما أن الزمن هو تلك اللحظة الهاربة نحو الماضي بينما ينبع الحاضر من معين لا ينضب هو المستقبل ليصب في وعاء لا يمتلئ ولا يفيض هو الماضي الذي يختزن في الذاكرة إلى حين استرجاعه من خلال التذكرة أو المناجاة “تيار الوعي” المتمثلة في شخصيتي “هاشم” و “لين”.تبدأ القصة بداية زمنية من الآن وتسير الأحداث الزمنية بطريقة تدريجية الآن فالماضي وكأنها ترغب في العودة إلى الوراء لاجتثاث أفكار ذلك الزمن ومعتقداته التي باتت واقع معاش في مجتمع يدعي التحضر ويؤكد ذلك إصرارها على استخدام بعض ألفاظ الأيام والأشهر التي اميت استعمالها وهذا الماضي ليست صورا تستثار في الحاضر وإنما تتغلغل في آنيته لتخلق الصراع العنيف بين الزمنين ويختزل الزمن في بعد واحد “الماضي” وليس ثمة حاضرأاو مستقبل فتتداخل الأزمنة بين الماضي والحاضر لدرجة اللبس لكن اللحظة الآنية هي القابضة على الأحداث محاولة السيطرة على الماضي وتجاوزه أو حتى تحطيمه وكأنها أرادت باستخدامها لتكنيك الأيام والشهور الجاهلية أن تركز الضوء على واقع معاصر وهو بأفعاله يعود لزمن الجاهلية وفي ذلك تناقض حاد وصريح رسمته الكاتبة بذكاء، ويتمثل الزمن الخارجي في الأيام والذي يدور حول استرجاع بعض الأحداث المصاحبة لشخوص الرواية في حين إن الزمن الداخلي الذي يعتمل في نفس الشخصيات “هاشم” ورغبته في الانتقام من “مالك” ولحظة الانقضاض عليه وتعجبه من أخته كيف أحبت هذا الرجل الأسود وما يعتلج في نفسه من لحظات يسرقها للضحك على ضحاياه من النساء، أما زمن لين وصراعها الدرامي فيتمثل مع ذاتها وحبيبها الذي لا عيب يعيبه سوى أنه أسود: (ستكفنه الغيبوبة البيضاء من قال إن الغيبوبة بيضاء؟ من قال إن للغيبوبة لونا؟ اللون! يا أيها اللون ماذا فعلت؟)، ولحظات ألمها من واقع المجتمع الذي ينظر للأنثى نظرة دونية “كان غضب أعوامها الماضية كلها قد سرى في دمها غضب طفلة العاشرة التي وعت مبكرا أنها غير مرضية لكنها لم تفهم سبب ذلك غضب العزلة التي سيجت روحها بها والوحدة التي انهكتها غضب الإهمال والتجاهل والاستخفاف بكل ما حققته في حياتها” وصراعها مع مجتمعها الذي ينظر للآخر بعنصرية شديدة: (أخطأت عندما أحبت رجلا أسودا هل أرتكبت ذنبا في حق الله أو الناس لقد أحبت إنسانا أحبت قلبا من ذهب ولم تنظر إلى اللون لكن أخاها لم ينظر إلا إلى اللون فعاقبها قال لها أبوها إن الناس لن تنظر إلا إلى لونه وسيعاقبونك وأنا لا أريد لك أن تتعذبي).
وفي مقابل هذه العنصرية فإن المجتمع ينظر إلى الآخر الذكر نظرة تبجيل وخاصة من قبل الأمهات : (ألن يعطني الله ولدا؟ أريد عزوة؟ لا أريد أن أموت بين أيد غريبة أريد أن يرعاني في مرضي وعجزي ، فلين ليست لنا).
الرجل في هذا المجتمع لا شيء يعيبه فماذا يعني لو تزوجت فتاة صغيرة رجلا كأبيها : (العمر مسألة لا تعيب الرجل ما من شيء يمكن أن يعيب الرجل وأبوها لم يخطئ عندما زوجها هي فقط من عجز عن احتمال الألم).
وهذا الزمن التداخلي يختلط باللاوعي والهواجس الداخلية إذ نلحظ جدلية الحاضر مع الماضي بصورة مستمرة ومفتوحة على المستقبل أمام القارئ ليضع رؤيته وتأويلاته وهذا بالفعل ما أرادته ليلى في جاهليتها.
وتدعو الساردة هنا لخلق زمن جديد يتجاوز الماضي بكل سلبياته وعنصريته إلى حاضر يعبر عن إيمانه بمعتقداته الحقيقية وليست تلك التي يؤمن بها في ظل أوضاع اجتماعي تبنتها العادات والتقاليد.
وحينما تربط الساردة أحداث العراق وأمريكا بين طيات الرواية فإنها ترسم صورة الأقوى والقادر على تجاوزات عديدة حيث يحق له ما لا يحق لغيره وهذا يصور واقع بعض شرائح المجتمع السعودي، فالرجل المتمثل في الأخ هو الأقوى وإن كان الأصغر ويحق له أن يفعل كل ما يحلو له : (لم يضرك أخ أصغر منك لأنك امتنعت عن تجهيز الشاي له ولرفاقه لم تجربي أن تسأليه بغضب مخنوق بأي حق تضربني فتنهرك أمك اششش لا ترفعي صوتك على أخيك). هذا العدوان أشبه بالعدوان الأمريكي على العراق لذلك نجدها تربك أحداث الرواية بأحداث العراق في كل فصل من فصل روايتها.
وأخيرا:فجاهلية نجحت في كشف علاقتنا مع الآخر في ظل مجتمع يدعي الانفتاح ويؤمن بالشعارات الرنانة دون تفعيل حقيقي لتلك القيم والمبادئ التي أوصى بها الإسلام إن الجاهلية تسكننا مهما ادعينا تطبيقنا لمبادئ الدين فعند أول محك حقيقي تظهر جاهليتنا.
إننا مجرد ذاكرة قولية ولسنا بذاكرة فعلية ذاكرة تجتر الأحاديث والآيات إزاء كل مناسبة وبما يتناسب مع اعتقاداتها.
صخب الذات الشاعرةقراءة نقدية في ديوان ( هديل العشب والمطر )*( هديل العشب والمطر)، هذه هي بوابة الولوج إلى عوالم الشاعرة لطيفة قاري، والشاعرة في تجربتها قد عنونت لديوانها بهذا الاسم لتكشف عن ذاتها المكتنزة بـاليأس / الشجن/ الألم/ الغربة/ الضياع / الحب/ الوجع/ التمزق/ الخواء/ الحصار/ الخراب/ الجنون/ النشوة، مع ما تكتنف هذه الدوال من مدلولات توحي بالانفصال والاتصال مع الذات الخارجة من عوالم أخرى، والداخلة في عوالمها، الذات التي تتصل أحيانًا بالعالم والموجودات، وتنفصل عنها أحايين أخر، المليئة بالصخب/ التأمل/ الدقة في الوصف/ والاندماج مع كل العوالم المحيطة بها.وقد استمدت الشاعرة هذه العوالم من الذات الشاعرة تلك الذات المرتبطة ارتباطًا بالحقيقة والماهية[1]، و التي تريد أن تكشف عن حقيقة الوجود، وجودها هي، تتأمل حدَّ الاستغراق وفي لحظة الاستغراق هذه يشير الدكتور عبد الواسع الحميري أن الذات (تتوحد مع العالم الذي تنظر إليه، لأنها تنظر إليه بعين الفن بما هو شكل ولون، ولا تنظر إليه على أنه ذاتُه العادية)[2]، ومن هنا تسيطر الأنا في هذا الديوان بشكل سافر مما يعكس الوضع النفسي لكلِّ النصوص التي تحمل هذه المضامين.وتأخذنا الشاعرة في مجموعتها هذه لعوالم مختلفة مليئة بالصخب، ناهلة من مختلف مرجعياتها، مرتكزة على ذاتها الحاضرة في عوالم النص بحواسها ووجدانها وقلق هويتها من جهة، وعوالم الآخر من جهة ثانية في تواصله وانقطاعه، والمكان/ القصيدة الحاملة لذاتها الصاخبة، والمكان/ الجسد وما يمثله من استلاب لتلك الهوية، من جهة ثالثة، وبرغم هذا التنوع، فإن الشاعرة في سعي لخلق جو شعري خالص انعكس إيجابيًا على صيرورة النصوص وضمَّن لها، بكيفية أو بأخرى، توازنا وجاذبية.لقد تعرضت الشاعرة، في هذه المجموعة، إلى مواضيع مختلفة، وجودية ووجدانية، مما يشير بوضوح إلى مدى إلمامها الواسع بالقضايا التي عرضتها، كما أظهرت إتقانًا كبيرًا في تمرير الآراء والمواقف عبر تلك القضايا، فموضوعات الحرية والشعر والطبيعة والمرأة والطفولة والتاريخ والإنسان.. وغيرها، محطات شعرية استوقفت الشاعرة، و عبَّرت عنها فنيًا بحسب التداعيات، التي رافقتها ووجهت وعيها الشعري.وأبرز ما يتجلى لنا حين نكاشف هذه النصوص "جدلية الأنا" التي نجدها طافحة ومسْتعِرة في الهديل الأول، ولا يعني هذا خفوت وهجها في الهديل الثاني، لكنها في هديلها الأوَّل تستعلي على كل شيء فهي أنا مهزومة ممزقة مع عوالمها، فالهواجس يعلو صوتها لتجعل منها ذاتا مهترئة لا وجود يحتوي أحلامها/ طموحها/ رغابتها/ نزقها:أناكلُّ خاطرٍ يجوس بين اللحم والظفرأناكلُّ هذا التنكرِ لحدودِ الوهمِأناكلُّ هذا النهرِمن المصبِّوحتى بداية التلاشي في هاوية الملح [3]إن هيمنة ( الأنا )، وتكرارها في النص يشي بذات تتوق إلى ملامسة الخلاص من التصدُّع والتيه الروحي الذي يجعل أناها منقسمة لأنَّات متعددة، فنراها تمضي في تساؤلاتها المحرقة عن معنى وجودها، مع شعورها بالخواء والتلاشي واللاجدوى، كلُّ هذه العوالم الداخلية المجتمعة تجترُّ متاعبها وأحزانها، والتي ستجعلُ منها شبه شجرة خريفية ظلت أمدًا بعيدًا بعد أن محتها رياح مجنونة، أو كلحظة فرحٍ قابلة للتصدع، إن هي لم تقاوم معاناتها الأزلية في معرفة سرِّ كينونتها:لم أتعر بعدكشجرة صرَّمت تاريخها ريح مجنونةلم أتداع كزوادة الفرحملكت جوامع الغبشوخسرت يقينيوتناءى حداء قافلتيو استوى الجوعيسهِّد منابع الجمرويدك حصون الرملكلما أقبلت سنة [4]فصورة الشجرة التي تعرت بفعل الرياح العاتية، وصورة اللحظات التي تتداعى سريعًا من الذاكرة والشعور، صور إسقاطية لحالة الاضطراب الذي يملأُ أركان ذاتها، لكن هيهات لهذه الذات أن تنفك من هذا الصراع الذي يموج بين سرادقات روحها في كلِّ سنة تمرُّ الذات الشاعرة بعذاباتها، فدوال :" الغبش – الجمر – حصون"، كلها مؤشرات نحو اليأس والصراع النفسي، أما الأفعال المضارعة المصاحبة لها: ( أتعرى – أتداعى – يسهد – يدك)، فقد أوحت للمتلقي باستمرارية هذا القلق الروحي.وقد تفقد الشاعرة ذاتها وسط يوميات الحياة العادية، فقراءة كتاب قد ينسيها وجودها:أنامن أناحين يُجلِسُني كتابٌ فوق ركبتيهويبدأ بتقطيع يومي [5]نشتم رائحة الموت المؤقت للواقع المعيش من خلال استخدامها لدال " تقطيع"، مما يعني أنَّ الذات الشاعرة تعيش عبر هذه الحالة اللاشعورية نوعا من الحصار الخارجي على ذاتها، إن هذه الصورة المشاهدة التي التقطتها لنا عدسة الذات تجسِّدُ القلق البادي على يومها، وكأنها تعبِّرُ بطريقة ما إلى تهميشها من قبل المحيطين بها؛ السبب الذي جعلها تنكفئُ على كتابها لتعيش عوالم أخرى وتنفصل عن عالم الواقع.وهذه الذات في حالة بحث عن هويتها المفقودة في ظل الصراع الأبدي الذي يحتلُّ دواخلها، تتلبسها الأسئلة لتبعثر كينونة وجودها:أنامن أناحين تبعثرني ندواتهاحين يلف الرملذاك الجسد الطريحين أفاجئها بالكلام الذي تعرفهقبل أن يجيب نداء البحر[6]هذه الأنا المتسائلة المتحيرِّة ترتدُّ إلى وهمها محاولة التمسك بآخر خيط من ضوء، وعبثًا تجد الإجابة، لكنها تفاجئنا في المقطع الأخير من هذا النص وتقف بنا عند منعطف يتضاءل وجوده تدريجيًا في الواقع:ألا يكفي أنني امتداد لظل [7]هذه الحالة يمكن وصفها بحالة مائعة لا يمكن الوصول معها لنتائج أو حلول، وكون الذات الشاعرة تَعُدُّ نفسها ضمن مصاف الظل فهي تشعر بتهميشها وبعدم أحقيتها في الوجود تحت ظروف قاهرة، تطالبها بعدم كشف حقيقتها أو انكشاف مساوئها، وبتلك النبرة التهكمية الساخطة المتمثلة في الأداة :"ألا"، تشير الشاعرة إلى هذا المعنى بكل وضوح.إنها ذات مهزومة تحمل فضاءات مشحونة بالتناقض تطالب العوالم الخارجة أن تنهي العذابات والرغبات المكتومة:أثمة نهاية لهذا العذابأثمة بابيؤدي لمنفى الصباحأتقيأ دماوأسئلةورغبة مكتومة في الغيابالعالم يغسل أثمه في دميفتفز العروقصارخة جامحةكمهرة لم يروضها الألممزيدًا من الألمأيتها السماءيشيع في مفردات النص دلالات مكتنزة بالرفض - العبور– الفناء – الحصار- الاغتراب، الاشمئزاز- الخطيئة، من خلال النسيج اللغوي للمفردات :" العذاب- الدم - الغياب- الألم- النفي- الأثم "، والتي ساهمت في إشاعة هذه الرغبة المحمومة بالأسئلة واللا حضور لهذه الأنا في عوالم الآخر، في حين إن الأفعال المضارعة ساعدت في تكثيف هذا المعنى (أتقيأ – يغسل – يروّض – تفِزُّ )، ولتستمتع الروح مع هكذا عذاب، فإنها تستجلب الألم كنوع من التعذيب الذاتي الماسوشي.وهذه الذات الشاعرة التي تسيطر عليها مثل هذه اللغة ما تزال تعيش هذا التداعي الذي يجعل منها ذاتا متبوعة / أغنية أو قصيدة يتعالى صوتها المنكسر في شفاه الآخرين/ الحبيب:أناظلال الشك الآتيوبيت لمحمود أطلقهلأعري انكساري به(( يا ليتني حجر )) [8]إن الخروج من بصمات الأنا المتوارية في شكها، ذاك الشك الذي سوله الآخرون لها/ الحبيب الذي تشتهي صوته الضاج/ الغاضب/ الصاخب / المجنون/ الناعم، ولكنه غائب في غياهب جبه، يجعلها تتمنى أن تكون حجرًا لتعري هذا الضعف المسكون بداخلها والذي كان بفعل قوة خارجة عن إرادتها، وقد استدعت الشاعرة صوت محمود درويش في يومياته لتوحِّد الحالة الشعورية بينها وبين الشاعر الذي كان يعيش حالة من ضياع الهوية، وقد مثَّل لها هذا الصوت الذكوري عنصر قوة في إطلاق صرختها وصوتها بأمنية، وهذه القفلة التناصية "ياليتني حجر"، جاءت بها لتترك علامات من التعجب في نفس المتلقين .وحيثُ إن المرأة جزءٌ من هذه الذات، فإن هذا يكشف عن أن قضايا المرأة هي قضايا الذات المشبعة بالتساؤلات لذا نرى نصوصها مشبعة بقضية علاقتها مع الآخر الذي يشتهيها في عالمه وقتما يرغب وبالطريقة التي يرغبها لا التي ترغبها هي، فهذا الآخر يرفض أن يكون لها كيانا خاصا يشعرها باستقلاليتها:لماذا تغادرني الآنلأنني لم أعد كما تريدأم لأنني أصبحت كما أريد [9]فالمرأة تحب أن تكون مرتبطة بذاتها لتشعر بتلقائية ما يكتنفها من قوة أو ضعف، وهي في حالة هذا الارتباط تشتهي أن تكون في حضرة الآخر/ الحبيب هي ذاتها دون أية رتوش:قل لي من أناأقل لك من أناهكذا تحب المرأةحين تحب [10]وكأنها بهذا التكرار الحواري تتبادل فيه الدور مع الآخر، لتضع له مفتاحًا وسرًَّا هو خاصية من خصوصيات المرأة حين تحب لتكون ذاتها المستقلة، فتسهِّل له العبور نحو عوالمها الداخلية وغزو مشاعرها ببساطة متناهية.وهذا الآخر/ الحبيب يجعلها في صورة تساؤل دائم، محرضًا عوالمها الداخلية للنبش والتأمل والدوران حول نفسها:لأظل أدور وأدورنقطة البدءهي اللا نهايةوطيور سوداء تحلق في فراغيطيور تتشكلطيور تتلاشىطيور تنقر صوتيطيور تشدني من أطراف يقينيلأبصر مالا يذاقولأسمع مالا يرىوليسكرني الصمتشهد الثواني [11].يبدأ النص من أوله بمفارقة بين البدء واللانهاية لتثبت الشيء و نقيضه، مما يوحي بحالة من الهستيريا غير المتزنة تتصاعد تدريجيًا لدى الشاعرة كلما سنحت لمخيلتها الفرص في التقاط هذه الصور المتكررة، فتكرار الطيور أكثر من مرة يشي بصور مشوشة وضبابية غير واضحة المعالم، هذا وقد شكلت المفردات " تحلِّق- تتشكَّل- تتلاشى – تنقر – تشدني – يقيني – يرى - سوداء"، بالإضافة إلى مفردات أخرى - النسيج اللغوي لبعض نصوصها - تداعيا مع ذاكرة الشاعرة لتعمق أناها المتحققة عبر البنى المرئية للعيان والمسموعة، مع وجود مفارقة بين البصر الذي يذاق والسمع الذي يرى، وقد سخرت الشاعرة هذه البنى لأنها وجدت عجزًا في واقع المشاهد، فنقلت الصور المختزنة لتخدمها في نقل أحاسيسها، ولتخلق نسيجها الرؤيوي الذي أفضى في البداية لذات غائبة وأدى في نهاية - تصاعده الدرامي إلى تحويله وهمًا في بؤرة وعي الشاعرة، فلحظة الفراغ والصمت تشعل فتيل الكلام الذي لا يؤول إلا لصمت أو وهمٍ آخر يطبق أنفاس الوقت ويخنق اللحظة المشتعلة بالوهج القديم، فيحول كل لحظاتها إلى فراغ في عوالم الآخر، ومما هو لافت للانتباه وجود مفارقة توحي بالانشطار الكلي عن عوالمها الخارجية تتضمن تناقضًا عجيبًا للصور لدى الذات، فمن البدهيِّ أننا نبصر لنرى الأشياء لا لنذوقها، ونسمع لنستمتع أو نستعذب الحديث لا لنراه، لكن الشاعرة في تعبيرها ربطت بين حاستين متنافرتين، وهي بذلك تقرِّب لنا الصورة الحقيقية لما يعتلج خوالج هذه الذات.ونزعة التحرر من القيود والانطلاق نحو عوالم أوسع رحابة هو أكثر ما يشغل هذه الذات التي تشعر بحصارها وانغلاقها في كهف قد أظلمت عوالمه:هذه الدموعالتي تتحدر بسكينةولوعةحين أعدو إلى قمة سامقةكوعل يرنو إلى مجهول الذرىأعرف أنني لا زلتوجذوتيلازلتفي كهفها [12]إن الرغبة الجامحة والتوق الإنساني للخروج من تلك البوتقة التي تعيشها هذه الذات يجعلها في محاولة مستميتة لكسر هذا الحصار، وقد ساعد الفضاء النصي في إيضاح هذه الصورة حيث بدأت الشاعرة نصها من بداية السطر، ثم تدرجت لتقف عند مفردة ( لوعة)، لتتركها في صفحة تشتمل على مساحات بيضاء، وتتلاحق كلماتها سريعًا كما الوعل الذي يعدو ليصل إلى قمته، ثم تليها نبرة من اليأس لتجعل خاتمة نصها عبارة عن سطرين يمتلئان بالبياض إلا من كلمة واحدة تشي بالانفصال وعدم التوافق بين حروفها، إنها محاولة بائسة فاشلة أفضت بها إلى التساؤل الذي يضجُّ بكاءً والذي لا تعلم كنهه:أهي الزهور التي اشتريتهاتبكينيأم أختي التي قصت شعري أكثرمما ينبغيأختي تسألنيوأنا لا أدريوهي أيضًالا تدري [13]إن هذا التساؤل يعمق الشعور بالغربة والوحشة، مما يخلق لنصها فضاءً مشحونًا بالتوتر والحيرة، لتنهي خاتمة نصها الذي أودعت له عنوان :" كهف"، بإجابة مترددة منشطرة ( لا تدري )، مما يشير إلى أنها ذات غير قادرة على اتخاذ القرار هي والمجموعة /هن التي تمثلها.و تتماهى الذات الشاعرة مع عوالم الآخر/ الشاعر الذي هو جزء آخر منها يتفاعل مع ما يحيط به مصورًا لحظة وجوده، يحكي انثيال الحروف لبدء تكَّون وتخلُّق القصيدة، فالقصيدة كما تقول فاطمة الوهيبي "مرآة ووسيلة لإبراز الذات في تخارج أو إخراج الذات من كينونتها الداخلية وتجسدها على الورق[14]، بل هي مكانها الذي تتجسد من خلاله رؤاها ومعاناتها وأحاسيسها في علاقاتها بالكون والكائنات" [15]، وتكشف لطيفة في إحدى تداعياتها الذات لنا عن ذات الشاعر حالة خلقه قصيدته، والتي عنونت لها :" تداعيات ما بعد الساعة الثالثة ….صباحًا":شموع كثيرة ظلَّت تنزف طوال الليلحتى يكمل الشاعر أبيات القصيدة [16]هذا الشاعر تشظى مع عالمه ليخلق لنا قصيدة نزف لأجلها طوال الليل كما الشموع لتكون كما يريد.أما في نصها الذي عنونت لها بـ :" شاعر"، فلها نفس الرؤية لكن الصراع هنا دائر بين الشاعر ولحظة الكتابة:صداعانثيالك في جوف الحروفانثيال الحروف في نهر القصيدةانثيال القصيدةفي عروق من تحب [17]فالقصيدة تمثل حالة من حالات اللا وعي لدى الشاعر حين يندمج مع الحروف التي ننصاع بسهولة لتخرج من قمقمها الذي ترقد فيه، فتكرار الانثيال يعني حضورها الذي يحمل صفة الانصباب:أيُّ زجاج صلد هيأو أي زجاج صلد همكل يشف عن الآخركل يفضي إلى ملامح تشربهاكما تشربك الأيامواقف هناألوح بقصيدتيعلَّ سيارة يقولونيابشرى [18]إن السؤال الحائر المتكرر ( أيُّ زجاج ) ينبعث من خيبات نفس حائرة مضطربة خائفة من عدم التحقيق لرغبات القصيدة المنثالة، مع مافي الزجاج من دلالات التكسُّر، إذْ إن لحظة الفتك بالقصيدة لتخرج من قمقمها المارد هي لحظة الظفر وإعلان البوح بها عبر عوالم الآخرين، وهذه النزعة الذاتية في الظفر تكتنفها العديد من الإيماءات المتجه نحو التصارع بين الذات التي تعي نفسها كموضوع مع الذات التي تعي نفسها كذات فاعلة خالقة للنص ومنتجة له على حد قول الدكتورة. فاطمة الوهيبي[19]، ليعلن هذا الشاعر فرحه وبهجته بانتصاره وظفره بالنص الذي جعل منه ذاتا تندمج في عوالم الآخر لتعبر عن بؤسه ،تعبه ،فرحه:فأهتفُيا بشرىأتسول تعب الآخرصخب الآخروأنا كون آخرليس له ذاك الدفق الرتيبليس له ذاك الفرح المستعار [20]ومع إنوجاد هذا الفرح إلا أن ذات الشاعر المتخلقة مع ذوات الآخرين، تكتنزها المآسي والآلام التي تعكس المرآة الحقيقة لهذه الذات المعبرة.هذا الشاعر قد اختار القصيدة في نهاية الأمر بعد أن عانى عدم تحقق أحلامه ،آماله وقضاياه، تقول:الكتاب كان يغري بالسفروالأحلام كانت تغري بالعبثوالواقع كان يغري بالموتاحتار الشاعر بينهمثم اختارالقصيدة [21]وهذه القصيدة كما تراها ذات الشاعرة عندما تتخلق فإنها تصدع رأسها بالحكايات التي اهترأت ولم تعد تنفع في ظل الوضع الاجتماعي الذي تعانيه، تقول في نص لها بعنوان:"شعر" مخاطبة هذا الشعر:أنت تصدع رأسي بحكاياتكالتي أهترأ نسيجهافما عادت تستر فاقة الألمصغ لي ذاكرة الأشجاروجمر المستحيلوصلاة الحجرورماد الحدائقوهديل الرملوفاكهة الجنةوضع فوق كفي زمردةتلهب كأس الوقتفضة الأسئلة لو ذوبتهاوسقيتني زبدهالانفتحت كهوف الوحشةفي أحضان جبال تراها هامدة [22]فمخاطبة الشاعرة للشعر باستخدام مفردات فيها نبرة تبخيس لدور هذا الشعر في حياتها، راغبة منه أن يتوقف عن حكاياته المصدعة، تلك الحكايات التي تغزو مستودع الذات لتشوش الصور، مع ما في النص من مفارقات تسهم في إحداث هذا التشويش.وتستوقف الشاعرة كلماتها المعبرة عن هذه الذات، لتبدأ حالة الفصام بينها وبين المعنى المتخلق بداخلها، في مقطع من قصيدتها :" صفحة أولى من سفر الرؤية:أيتها الكلماتلا تعبرينيأنا لست جسرًا يفضي بك إلى المعنىأنا المعنى [23]فانشطار الذات التي تحمل عبء المعنى وتتشظى بداخله لتتكون وتتخلَّق عن الذات المعبرة الفاعلة المرئية مع تكرار الأنا لإثبات أحقيتها وأولويتها، يعني صراعا أبديا يتلبس هذه الذات يشير إلى حالة من اللا توافق بينها وبين نصها.بل وترفض أن تبوح لورقتها بكلِّ ما يختلجها، خوفًا من سلطة عليا قد تكون ذكورية أو وضع اجتماعي يحكمها، تقول في صفحة من سفر الرؤية:لن أبوح لك أيتها الورقة بأكثر مما فعلتسأظل محتفظًا بأسراري في قلبيقلبي لا يميل مع الريحقلبي لا يفتشه العسكر [24]تعلن الشاعرة بقوة أنها ستكتفي بما كتبته عن ذاتها، مع أحقية احتفاظها بباقي أسرارها، فالقلب مستودع الأسرار وخفايا الروح، حتى القصيدة التي كتبتها فقدت قيمتها وجذوة أوارها في لحظة شعرت فيه أن القصيدة لم تعد تعبر عنها:القصيدة التي كتبتهاذبلت بعد يومينوظلت الورقة كما هي [25]فالقصيدة عتبة الدخول لعوالم الذات الشاعرة الداخلية حيث الذاكرة مستودع الأفكار والرؤى والأحلام والتأملات، إنها كما يقول عنها الشاعر هنري كاتيان:" مدار الكلمات ،، ذاكرة هامسة" [26]، فالقصيدة بما تحمله من تطلعات / أحلام / روئ / ذكريات / تلهب الذاكرة، لتشعر ذاتها الجامدة الباردة حرارة هذه الذكريات:حين أشعلت القصيدة فيناجمرة الذاكرةاحترقت أطراف الشتاء [27]وأبرز ما يطالعنا في بعض نصوص لطيفة قاري هو إبراز الجسد بتنوع صوره، ذلك أنَّ الجسد جزءٌ من الذات، ويشكِّلُ هذا الجسد حضورًا حينما يتسنى له أن يختزل اللحظة، إنه على حدِّ رأي عبد العزيز موافي يتشكل "كمادة محسوسة قابلة للمس والاحتواء، وحينها نفقد ذواتنا كأشخاص، ونسترجعها كإحساسات، وبمقدار ما يغدو الإحساس أكثر كثافة، يصير من نعانقه أكثر تحددًا"[28]، تقول الشاعرة، :الشفاه تعانق بعضهالنشعر بالنشوةوالنشوة غادرت أعضاءناوسكنت خيال الشعراءلنشعر بالدفء [29].فإشباع الرغبة الأنثوية يكون بملامسة هذا الجسد، والشفاه جسر يفضي إلى هذا الإشباع المتخيل في ذهن المتلقي، أو كما يرأى موافي في أن الكتابة بالجسد هنا ليس هدفها سوى استثارة ذاكرة المتلقي للرغبات الجمالية" [30].إن كتابة المرأة تفجير لأشياء ينطوي عليها الجسد، وهي كامنة تطل علينا عبر الإيحاءات والإيماءات وتكثف فعلها في جسد الآخر المتماهي والمختلف[31] لهذا كان "النص المكتوب كما يشير محمد نور الدين أفاية امتدادا وجوديا للذات الكاتبة وتكثيفا لأشياء أخرى تتجاوزها[32].والقصيدة " هي الجسد الاعتباري الذي يضاجعه الشاعر، في محاولة الوصول إلى نوع من التوازن النفسي الذي تتغياه حركة الليبيدو، فإذا كانت الطاقة النفسية الفائضة تمور في ظلمة اللاوعي، فإن القصيدة – أيضًا – تتشكل في نفس المنطقة " [33]، والتعلق ببواعث "الجسد"، ورغباته واستبطان نوازعه الداخلية، يفسر شيوع مجموعة من الدوال المؤشرة على مثل هذه النوازع الجسدية من قبيل "الشهوة، النافرة، الطافحة، العري"، تقول لطيفة:الحمى قشرت جلديتحت من أختبئ الآنوأخبئ عروقي النافرةالطافحة بشهوات أبديةهي حجة الطينليستر عريه تحت تلك الطبقة من النسيجالذي لا يصمد لأكثر من 37مْ [34]إن صورة حمى / المرض / الحب وهي تعلو هذا الجسد المادي الطافح بالشهوات والرغبات الأبدية، وتغلي مراجلها في هذا الجسد الذي يتنصل من حالته الطبيعية ليتحول بفعل هذه الدرجة من الغليان من الشهوة الطافحة، والاختباء خلف هذا الجلد الذي تمرَّس على هذه الحالة ليستر حالة مستبطنة داخل هذه الذات.ولنقرأ نصا بعنوان :" فاتحة البكاء"، والذي يتضحُ فيه طغيان هذه الدوال:" الشهوة- سوءة- يواري- نزق- الدهشة- حمم- تنثرني- تبعثرني- ثمار الرغبة- نزت الخطايا"، تقول:منذ أن عقد الشيطان لواءهفوق ذرى الشهوةوتناحر ابني آدم على سرابهذا الصباحأبحث عن غراب يواري سوءة الآتيفلا أبصر غير أفق غادرته الشمسلا أرى غير الدهشة المصبوبة في الوجوهالتي ألفت حمم البركانتغتالنيتمزقنيتنثرني في الشوارع التي ألفت خطوات هذا الجسدهذا الجسدهذا الجسدسوط اللعنة التي نزت من الخطاياتقرَّحتونزَّ صديدهاهذا الصباحالخالي من رائحة القهوةوثمار الرغبةلأنه لا وقت للتيه في سهوب الحكمةمع الحمم التي تهرأت منها الدموعأي بيت سيحضن أوبتيويستر نزق الظهيرةوالصباح فاتحة لهاجس ممضيطــــول [35]إن هذه المفردات التي يكتظ بها النص ( سوط/ نزق/ لعنة/ رغبة/ جسد)، فالذات غارقة في سلبيتها نحو مادية هذا الجسد، مما جعلها تعيش صراعًا عنيفًا مع هذا الجسد الذي تمثلت فيه الخطيئة بكلِّ أشكالها، وهي في محاولة بائسة لستر هذه الرغبة الجامحة التي تظهر آثارها على هذا الجسد في صورته المادية، وتسيطر على هذه الذات هواجس تستلب مخيلتها ليطول بها زمن هذه اللحظة التي تفتح عليها باب الرغبات.وأمام السلطة الذكورية والقمع الاجتماعي الذي يخالج هذه الذات، تجعل أناها أنا ذكورية في محاولة لإنكار الذات الأنثوية ليس من طرفها ولكن من طرف الآخر:أنت غريب عن القبيلةأعرفلكنني أنا أيضًا غريبمع أنني لم أغير جلدي سوى مرة واحدةألقيت إليهم بثوبيالذي مزقته الغوايةوبقيت عاريًا إلا من حكايا جدتيومن نزغات الشياطين [36]وفي لحظة تقمص شخصية الآخر، تعرِّي الواقع، فإنكار القبيلة هذا النزق، أجهض توق الذات نحو الخلاص لتدخل عوالم صوفية تتجلى فيها نحو الكمال الذي ليس هو باختيارها، وإنما باختيار الآخر:هل تحفظ الفاتحةإذًا اقرأ على روحيوكن ملاكًا كما أشتهيونبيًاكما يشتهونالنبوة في حينًاواجب وطني [37]فانشطار الذات بين ما تشتهيه هي وبين ما يشتهيه الآخرون يفضي إلى التناقض الذي تتماهى فيه الروح مع الجسد بنزقه ليعبر كلٌّ منهما عن هويته الحقيقة، ففعل الأمر ( كن )، هو فعلٌٌ قسري موجه لفرد ضمن منظومة اجتماعية تجبره على أن يلبس أقنعة متعددة ويخفي حقيقته.وفي نص لها بعنوان :" نشوة"، تقول:أبتسموأنا أدقُّ بقدمي على الأرضوأضحكوأنا أنزع تويجات زهرتيوأبكيوأنت تسطو على دفء غاباتي [38]يقال: سطى اللص على المتاع: انتهبه في بطش وأخذه بفعل القوة والعنف، والفعل: (تسطو) هنا بما يحمله معجمه اللغوي يعني الاعتداء والاغتصاب المستمر، وسطوة الآخر على هذا الجسد لهو من دواعي دخول الذات في مرحلة من الانشطار الذي يشعرها بأنها ذات مستلبة من قبل ذوات أخرى أقوى منها، هذا الجسد الذي ما عاد قادرًا على المقاومة فتصدعت خلاياه كما تقول:هذا الجسد الواهيتتصدع خلاياهكلما تغاوى شهروأنَّ قمر [39]ونلمح في بعض نصوص الشاعرة علاقة بين الجسد وبين فعل الكتابة، فما الجسد إلا إناء للكتابة، وحين ينطفئ الجسد تنطفئ الكتابة، وبالتالي فإبادة ثقافة لا بد أن تتبعه خطوة إبادة الجسد كما أشار الناقد يوسف أبو لوز في إحدى مقالاته، إذْ إنَّ هذا الجسد كما يوضحه الدكتور.فريد الزاهي[40] :" موضوع النص ومنبع معطياته ومنتجه ومتلقيه في الآن نفسه"، والذات الشاعرة تشير بأصابع الاتهام إلى وجود معتد يحاول بشتى الطرق أن يجهض هذا الجسد لتمتنع عن الكتابة، تقول في :" تداعيات ما بعد الساعة الثالثة…. صباحًا":من أطفأ جسديالآن لم يعد ثمة ضوء نهتدي بهإلى نبع الحروفمن أطفأ جسديمن أطفأ الحروف [41]إن هذه الخيانة التي مارسها الآخر في إطفاء وهج هذه الجسد والذي هو إناء تتموضع فيه أفكارها ورؤاها ورغباتها وتعبيرها الأنثوي عن احتياجاتها وكل ما يختزن عوالمها الداخلية، هي خيانة مشروعة ومدروسة لإطفاء نبع هذا الينبوع الكتابي.لقد ساهم التشكيل الجمالي للديوان في إبراز الذات المنشطرة والمفتتة في تجربة الشاعرة لطيفة قاري، وهذا الديوان كمنجز إبداعي يختلف في تجربتها عن التجربة السابقة: "لؤلؤة المساء الصعب"، الذي اشتملت نصوصه على القصيدة التفعيلية، لتلجأ إلى ما يسمى بالقصيدة النثرية، والذي هو بدوره نوع من انشطار الذات التي رأتْ – من وجهة نظري - أن قصيدة التفعيلة تجعلها تحجم عن مساحات التعبير، فاختارت القصائد النثرية، والقصيرة ذات الومضات المكتنزة بالدلالات العميقة، والتفتيت الدقيق للفكرة، لتنقل لنا عوالم الذات الداخلية بصورة أكثر كثافة، وتعبر عن الأنثى وتأملاتها الذاتية والشاردة بكلِّ دقة ومصداقية.أخيرًا:استطاعت الشاعرة في مجموعتها: " هديل العشب والمطر"، أن تبحر بنا نحو عوالم ذاتية ماتعة لأنات متعددة، لنعيش ونتعايش مع مجموعة من الذوات / المنشطرة / المتألمة المتداعية/ المبدعة / المتأملة، الذات التي ترغب بعوالم أخرى تخرجها من عوالمها الداخلية إلى عوالم أكثر رحابة وهي عند خروجها لهذه العوالم تصطدم بالواقع الذي يجعلها أكثر إنكفاءً على ذاتها وتفتتًا معها، إنها علاقة طردية تحتاج إلى دراسة أخرى متأنية في أعماق هذه الذات مرة أخرى.ولا أدَّعي الكمال في هذه الدراسة المبسطة، فإن أصبت فمن الله، وإن أخطأت:فما أبرئُ نفسي إنني بشرٌ يسهو ويخطئ ما لم يحمه القدرُ* نُشرت في مجلة الآطام، العدد 30 في السنة العاشرة .1- يُنظر: الذات الشاعرة في شعر الحداثة العربية، د. عبدالواسع الحميري، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع – لبنان، ط:1، 1419هـ - 1999م، ص 112- الذات الشاعرة في شعر الحداثة العربية، مرجع سابق، ص 453- الديوان، ص 50/ 514- الديوان، ص 50/ 515- الديوان، ص 706- الديوان، ص 727- الديوان، ص 728- الديوان، ص 559- الديوان، ص 12210- الديوان، ص 12211- الديوان، ص 99/ 10012- الديوان، ص 9613- الديوان، 9814- المكان والجسد والقصيدة- المواجهة وتجليات الذات، فاطمة الوهيبي، المركز الثقافي العربي- الدار البيضاء، ط:1، يونيو 2005م، ص 16215- المكان والجسد والقصيدة- المواجهة وتجليات الذات، فاطمة الوهيبي، المركز الثقافي العربي- الدار البيضاء، ط:1، يونيو 2005م، ص 4316- الديوان، ص 12217- الديوان، ص 9518- الديوان، ص 9519- المكان والجسد والقصيدة- المواجهة وتجليات الذات، فاطمة الوهيبي، المركز الثقافي العربي- الدار البيضاء، ط:1، يونيو 2005م، ص 16620- الديوان، ص 6021- الديوان، ص 13722- الديوان، ص 42/ 4323- الديوان، ص 13124- الديوان، ص 13325- الديوان، ص 13726- نقلا عن شاعرية أحلام اليقظة – علم شاعرية التأملات الشاردة، غاستون باشلار ت. جورج سعد، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع- بيروت، ط:1، 1411هـ/ 1991م، ص 3027- الديوان، ص 12428- عبد العزيز موافي- قصيدة النثر من التأسيس إلى المرجعية- المجلس الأعلى للثقافة- القاهرة، 2004م، ط:1، ص 15829- الديوان، ص 12430- يُنظر: عبد العزيز موافي- قصيدة النثر من التأسيس إلى المرجعية- المجلس الأعلى للثقافة، مرجع سابق، ص 16031- مقال بعنوان:" الجسد الأنثوي وفتنة الكتابة" لعبد النور إدريس. 23- محمد نور الدين أفاية، الهوية والاختلاف في المرأة والكتابة والهامش، إفريقيا الشرق – الدار البيضاء، 1988، ص:41، نقلاً عن مقال بعنوان:" الجسد الأنثوي وفتنة الكتابة" لعبد النور إدريس.33- قصيدة النثر، مرجع سابق، ص 16234- الديوان، ص12635- الديوان، ص3636- الديوان، ص 3237- الديوان، ص 3238- الديوان، ص 8539- الديوان، ص 9040- د.فريد الزاهي " النص والجسد والتأويل" إفريقيا الشرق، الدار البيضاء سنة 2003م، ص 19/ 2041- الديوان، ص 122